نشر بتاريخ: 28 تشرين1/أكتوير 2018
وقد طبقت الطفيلية المتوحشة الحاكمة باسم الاسلام في السودان مفاهيم الإقتصاد الرأسمالي بشكل مشوه ومخالف لتطبيق الغرب لها وأقحمتها علي إقتصادنا في غير شروطها،فرأينا خصخصة في غير أسبابها،وكان الهدف من خصخصتهم هو تحويل الأصول العامة المملوكة للشعب لجيوب القلة الحاكمة تمكينا لها ؛وكذلك رأينا إعادة هيكلة لوظائف الخدمة العامة بهدف تمكين الموالين للجماعة وإقصاء المعارضين، وقطع أسباب رزقهم في غير وجه حق،لا لشي إلا لانهم عبروا بوضوح وبالقانون عن رفضهم لانقلاب الجماعة العسكري علي النظام الديمقراطي،فكان نصيبهم التشريد من العمل بدعاوي الصالح العام وفائض العمالة. وحيث أن بديهيات تطبيق الاقتصاد الرأسمالي تقوم علي حرية أليات السوق(العرض والطلب) وشفافية المنافسة،رأينا عكس ذلك في تجربة الجماعة المتأسلمة حيث الاحتكار لنخبة منتقأة من أعوانها،وغابت معايير الشفافية والمنافسة الحرة في أغلب العمليات الاقتصادية منذ الانقلاب وحتي الأن، فأغلب العطاءات مثلا توجه لأفراد وشركات موالية للجماعة الحاكمة أو محسوبة عليها ،ولاتخضع أغلب صفقات الموالين لمراجعات فنية للمواصفات؛ وذلك خلافا لتوجهات المدرسة الرأسمالية في الغرب والتي تمنع بالقانون كل أشكال وطرائق الاحتكار وتحمي المنافسة الحرة النزيهة وتشدد علي الالتزام الكامل بما جاء في العقود.
والغريب أن المشروع الحضاري للانقلابيين تحدث عن إقتصاد إسلامي ،ومع غموض المصطلح ،إنتهجت الجماعة الحاكمة باسم الاسلام نهجا رأسماليا متوحشا يخالف حتي مقاصد الإسلام العليا في العدالة الاجتماعية، التي دعا وأمر بها الإسلام ؛والمعلوم في ديننا الاسلام أن الزكاة هي الركن الثالث من أركان الاسلام وفي ذلك إشارة واضحة لتعظيم الاسلام لقيم التكافل وصولا للعدالة الاجتماعية ؛ فالمال مال الله ؛ وملكية البشر ملكية إستخلاف ،وأن القران نهي نصا عن إكتناز الذهب والفضة ،قال تعالي (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأحبار والرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (سورة التوبه الآية : 35_34 ) وفي هذا الوعيد الالهي لمكتنزي الذهب والفضة دلالة وأضحة علي أن الإسلام أمر بمجتمع العدالة و الكفاية والكرامة ؛حيث يتضاءل التفاوت الطبقي؛ وتعلو المصلحة العامة للمجموعة علي ملكية الفرد، فينعم كل فرد في المجتمع بحياة كريمة ، بعكس مانشهده الأن من تضخم لثروات النافذين في الحركة الاسلامية وزراعها الحاكم في السلطة يقابلها إزدياد لمعدلات الفقر بين عامة الناس ،وضمور للطبقة الوسطي في المجتمع وإنحسار لها ،وإنقسام المجتمع بين أغنياء ومعدمين ،كما أن الإسلام حارب كل أشكال الفساد والتعدي علي الممتلكات العامة و الخاصة بغير وجه حق،والحديث المأثور في قصة المخزومية يدلل علي أن إجراءات التحلل التي تنتهجها الجماعة الحاكمة في مواجهة فساد أعوانها ليست من صحيح الدين ؛ والواقع يقول أن بدعة التحلل ساهمت في زيادة الفساد بكل أنواعه خاصة خيانة الأمانة وذلك لغياب المحاسبة؛ ومن أمن العقوبة أساء الأدب،كما أن بدعة التحلل لاتتفق مع صحيح الاسلام ؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَتمت لشَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فخْطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) ؛كما نهي الاسلام عن الاحتكار بعكس تطبيق الجماعة الحاكمة التي شجعت أعوانها علي السيطرة الكاملة علي السوق وإحتكار النشاط الاقتصادي خاصة السلع الضرورية مضمونة الارباح ،ولم تحفل بتأثير تلك القرارات علي الاقتصاد والمجتمع، حيث قال النبي الكريم ( لايحتكر إلا خاطي) أي بمعني آثم ؛ كما نهي الاسلام عن القروض الربوية بعكس مانري في سلوك مايسمي بالحركة الاسلامية الحاكمة في التعامل مع القروض الربوية ، وكمثال لذلك قبول قرض الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي الخاص بتمويل كهرباء منطقة الباقير جنوبي الخرطوم بفائدة سنوية (ربا) قدرها 2.5 وهو بالطبع ليس أول قرض ربوي تقبله الجماعة الحاكمة التي تستغل شعارات الدين ،ولن يكون أخر قرض، رغما عن وجود نصوص واضحة في الاسلام تحرم الربا؛ولا إجتهاد مع نص؛ قال الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (سورة البقرة الايه: 275-276 ) و قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) ( سورة البقرة الاية : 279_278 )، كما حرم الاسلام الرشوة حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( لعن الله الراشي والمرتشي ) ونري الان إنتشارا للرشوة في المجتمع تحت مسميات عديدة كعمولات وتسهيلات، في ظل دعاوي قيادات النظام المستمره باسلامية توجههم والتي يناقضها ويفضحها الواقع ؛كما نهي الاسلام في العموم عن كل كسب غير مشروع مما يمكن أن يشمل جريمة غسيل الأموال ( فكل لحم نبت عن سحت فالنار أولي به) ومع ذلك تزخر قضايا الفساد بتهم غسيل الأموال، مما يدلل علي إنتشارها ،وقد أحالت وحدة مكافحة غسيل الأموال منذ العام 2014 بالسودان 40 حالة إشتباه بعمليات غسيل أموال إلى المحاكمة، وذلك ضمن 130 حالة إشتباه أخرى ،وصدرت في بعضها أحكام قضائية،وماخفي أعظم.
كل هذه الجرائم وغيرها تعكس تراجعا في القيم والأخلاق في عهد الجماعة الحاكمة باسم الاسلام ؛هذا بالإضافة إلي أن النبي الكريم لم يكتنز مالا،عاش فقيرا ومات فقيرا زاهدا في عرض الدنيا، رأجيا رضا الله عز وجل؛ بعكس مانراه الأن في سلوك هذه الجماعة المتسلطة من حرص علي الدنيا وإفتتان بمباهجها ، وقد إغتنت وأكتنزت من ممتلكات الدولة وأشبعت كل شهواتها مالا وذهبا وعقارا؛ومن النساء مثني وثلاث ورباع؛ ومع ذلك يطالبون الشعب بالتقشف؟!
ومما سبق يمكن القول أن مايعرف بالحركة الاسلامية لم تقدم القدوة الحسنة طيلة فترة حكمها ، لهذا تفشي الفساد بكل أنواعه في المجتمع وضاعت الأمانة.
ورغما عن الانتقادات الموضوعية التي توجه الي طريقة إدارة الاقتصاد في المجتمعات الراسمالية ، إلا أنه لابد من الاعتراف بأن بعض المجتمعات الرأسمالية قد وفرت قدرا كبيرا من الحقوق المدينة والسياسية لمواطنيها بلا تمييز ؛وأهم هذه الحقوق الحق في حرية الفكروالمعتقد وحرية الرأي والتعبير و حرية المشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة ؛والمساواة أمام القانون وحق التجمع السلمي و الاحتجاج السلمي وحماية الخصوصية وغيرها من الحقوق؛ وعلي النقيض تماما مما يحدث في المجتمعات الرأسمالية ؛ مارست الجماعة الحاكمة في السودان كل أشكال التعدي علي الحقوق المدنية والسياسية للأفراد والكيانات، بل وشددت قبضتها الأمنية علي الحياة العامة والخاصة وتحول السودان في عهدهم الانقلابي إلي دولة داعشية ظلامية وفاشلة في كل شي، وتحول المواطن إلسوداني الي كائن مشوش التفكير وفاقد للأمل في الحاضر والمستقبل.
وأخلص الي أن إختيار وتطبيق الاقتصاد الرأسمالي (إقتصاد السوق) الذي يدعو للأنانية والنزعة الفردية علي حساب المجتمع كان مخالفا للمقاصد العليا للتوجه الديني الذي يدعيه الإنقلابيون،كما كان تطبيق الجماعة الحاكمة لإقتصاد السوق في السودان مخالفا لشروط تطبيقه المتعارف عليها علميا وعمليا في الغرب؛ بل كان تطبيقا فاسدا ومتناقضا مع أطروحات إقتصاد السوق ذاتها؛ لهذا كانت المحصلة النهائية تشوها إقتصاديا عميقا وأزمة خانقة ومستمرة،وأن الجماعة الحاكمة التي ترفع شعارات الاسلام ؛ والاسلام بري منها ،كانت تهدف في الأساس لإحكام سيطرتها علي إقتصاد الوطن وإشباع طفيليتها المتوحشة التي لا تشبع ،نهبا وهدرا لموارد السودان، وفي خلاف واضح لنهج الدين الاسلامي الحنيف الذي يدعو للعدل والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد قولا وفعلا.