الجمعة، 25 مارس 2022

نحو سياسة إجتماعية متكاملة تمثل قيم الثورة السودانية

  


يتفق الأكاديميون بشكل عام ، علي أن السياسة الاجتماعية هي جزء من السياسة العامة التي تصدرها الدولة أو من يمثلها وتخاطب فيها القضايا الاجتماعية كالرعاية الصحية والتعليم والسكن وسوق العمل والرفاهية ، كما تعالج إستجابة الحكومة والمجتمع للتحديات الاقتصادية والاجتماعية كقضايا الفقر والهجرة والنزوح ، وتحلل السياسة الاجتماعية الأدوار المختلفة التي يقوم بها شركاء المجتمع من حكومة ومنظمات غير ربحية ومجتمع محلي وأسرة في تقديم الخدمات عبر دورة حياة الانسان من الطفولة الي الشيخوخة. وتهدف السياسة الاجتماعية بشكل عام  للحد من عدم المساواة في الحصول علي الخدمات والدعم بين الفئات الاجتماعية المستهدفة بحسب الحالة الاجتماعية والاقتصادية والنوع والعمر والعرق و غيرها من المحددات.

وقد رفعت الثورة السودانية شعارات الحرية والسلام والعدالة ، والعدالة بمفهومها الشامل تغطي وجوه عديدة ، كالعدالة الاجتماعية والعدالة القضائية والعدالة السياسية .

والسياسة الاجتماعية هي التعبير العملي لتطبيق شعار الثورة السودانية فيما يلي وجه العدالة الاجتماعية ، و التي لن تتحقق ما لم تتنزل سياسات وخطط وبرامج تضمن المساواة وحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص والخدمات ، إذ من المفترض أن تخاطب السياسة الاجتماعية بعد الثورة السودانية محاور عديدة منها مايتصل بمعالجة قضايا الفقر و المخاطر المرتبطة بدورة الحياة كالمرض والشيخوخة والإعاقة وغيرها ، ومنها مايتصل بمحور الاستثمار في البشر من خلال الاهتمام بقضايا التعليم والصحة وسوق العمل ؛ ومنها مايعالج قضايا التنمية الاجتماعية كالاهتمام بالتنمية في الريف وقضايا الأراضي والمياه وغيرها . فالسياسة الاجتماعية بعد الثورة السودانية يجب أن تخطط من أجل الجميع ولمصلحة كل المجتمع ، مع التركيز علي  الاستثمار في البشر كأغلي راسمال في المجتمع من خلال الاهتمام بقضايا التعليم والصحة والسكن وسوق العمل ، ذلك أنه كلما كانت السياسة الاجتماعية متكاملة كل ماتعزز  نمو المجتمع وإستقراره وتماسكه ، إذ من المفترض أن تلعب السياسة الاجتماعية في سودان مابعد الثورة دورا بارزا في توطيد النسيج الإجتماعي من خلال دعمها لقيم العدالة الاجتماعية وتعزيز المساواة في المجتمع ، بل والمساهمة في تخفيف الصدمات الاقتصادية في وقت الأزمات ، والتي لايخلو منها أي مجتمع إنساني. خاصة مع الاتجاه الاقتصادي الغالب محليا بضرورة التعامل مع المؤسسات المالية العالمية( صندوق النقد والبنك الدولي ) ومايترتب علي تنفيذ سياسات هذه المؤسسات من فجوات إقتصادية ، وتصاعد في وتيرة خصخصة الاقتصاد والخدمات قد تتلاشى علي إثره الطبقة الوسطى في المجتمع ، ويصبح المجتمع بين غني ومعدم ، لذلك أصبح من الضرورة تبني سياسة إجتماعية تحد من عدم المساواة في المجتمع السوداني ، وتلبي ضرورياته خاصة مع إرتفاع التكاليف المادية للاساسيات كالغذاء والرعاية الصحية والتعليم والسكن اللائق ، وأصبح الحصول علي هذه الضروريات خارح متناول الاغلبية من محدودي الدخل .

وعلي جماهير شعبنا الضغط في إتجاه تبني الدولة لسياسة إجتماعية عادلة تؤسس لمجتمع العدالة الاجتماعية ، ولضمان الالتزام طويل الامد بتنفيذ السياسة الاجتماعية المتفق حولها، لابد من تضمينها كحق من الحقوق الدستورية ، حتي لايصبح الالتزام بها وقفا علي حكومة بعينها أو خاضعا لتقلبات وأهواء السياسة.

 وعلي الرغم من أن الحكومات في العالم المتقدم  لم تعد هي الفاعل الوحيد في ميدان السياسة الاجتماعية بل أصبح لها شركاء كالقطاع الخاص والقطاع غير الربحي والمجتمعات المحلية وصولا للأسرة وحتي الافراد ، لكن الواقع في السودان مختلف تماما،  فمع ضعف إلتزام القطاع الخاص تجاه مسؤولياته المجتمعية ،  وجنوحه لمشاريع تحقق له الدعاية أكثر مما تلبي حاجة مجتمعنا ، و ضعف مؤسسات المجتمع المدني والتي لم يقوي عودها بعد كما ونوعا ، عليه تصبح إدارة السياسة الاجتماعية مسؤولية الدولة بشكل مباشر تخطيطا وتنفيذا وتقويما .

 وقد برهنت تجارب بعض الدول المتقدمة أن التركيز علي إزدياد معدلات النمو الاقتصادي ليس كافيا لردم الهوة وتحقيق رفاه المجتمع ؛ بل ربما ساهم في زيادة وتوسيع الفوارق الاقتصادية وزيادة حدة الفقر وإختلال المجتمع ، ما لم يكن مستندا على سياسة إجتماعية فاعلة تعبر عن إحتياجات الناس الحقيقة وتعمل على تلبيتها وتجسير فوارق المجتمع ، كما أن تحسن المؤشرات الاقتصادية ليس هدفا في حد ذاته ، بل الأثر الايجابي لهذا التحسن علي حياة الناس وتنمية المجتمع. 

والدعوة للعدالة الاجتماعية ليست مطلبا بشريا فقط بل هي أمر إلهي ، وفي كل الديانات السماوية من التشريعات مايعضد قيم العدالة الاجتماعية والتراحم بين الناس ماديا ومعنويا ،ويكفي علي سبيل المثال لا الحصر ، أن الركن الثالث في الإسلام هو فريضة الزكاة وماتحمله من قيم التكافل المادي في المجتمع ،كما دعا الاسلام الي رحمة الصغير وتوقير الكبير علي وجه العموم  ، وخص بالأجر العظيم والفوز بالجنة كافل اليتيم ، والبار بوالديه وذلك من أحب الأعمال الي الله ، ومن حقوق المسلم علي المسلم  زيارة المريض وإتباع الجنازة ، ومن سيرة صحابة النبي الكريم ،إيثار الانصار للمهاجرين، وقد مدحهم الله عز وجل في كتابه الكريم ، وأصبح صنيع الأنصار رضي الله عنهم قرأنا يتلي الي يوم الدين ، مثل لامع أخر في الإيثار والمواساة عن صحابة النبي الكريم من الأشعريين ، وقال النبي الكريم فيهم: ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم) .أما المساواة بين البشر فقد أقرها الإسلام فعلا وقولا ، فالرب وأحد ، وكلنا لأدم وأدم من تراب.  

وفي الثورة السودانية أمثلة كثيرة علي الايثار والتكافل ولعل أسطعها تجربة إعتصام القيادة العامة ، والتي توحد فيها السودانيون وتكافلوا فيما بينهم علي إختلاف اعراقهم ، وبرز في تلك التجربه شعار (لو عندك خت ، لوماعندك شيل) كمثال بارز علي روح التكاتف بين الثوار .

وإجمالا ، لايمكن تصور وجود حكم رشيد باركانه الثلاثة (الحرية والمساواة والعدل ) دون سياسة إجتماعية عادلة و متكاملة . وما من تجربة إنسانية في الحكم لها ذكر في الجانب المشرق من التاريخ البشري إلا و كانت العدالة الاجتماعية بمثابة الروح و القلب النابض لها .

إن قضية توزيع موارد الدولة توزيعا متوازنا له علاقة وثيقة بنجاح السياسات العامة ، وعلي رأسها السياسة الاجتماعية ، والتي يجب أن يكون الالتزام بها حقا دستوريا حتي لايتهرب الجهاز التنفيذي من الايفاء بها .

 وقد أبرزت حسابات منظمة العمل الدولية أن تكلفة بناء نظام فاعل للضمان الاجتماعي الأساسي يشمل خدمات التعليم الأساسي والرعاية الصحية للفقراء ودعم المعاشيين والمعوقين لايتجاوز نسبة ال ٢% فقط من الدخل القومي للدولة ، وكل ما أزدادت النسبة المخصصة في الدخل القومي لبند السياسة الاجتماعية كلما كانت أكثر شمولا و إكتمالا ( كما ونوعا) وإنعكس ذلك إيجابا علي إستقرار وتماسك و تنمية و رفاه الدولة والمجتمع .











































السبت، 19 مارس 2022

حول إدارة التعدد العرقي وبناء الهوية المشتركة في السودان


مابين حاضرنا وخطاب وداع السير روبرت هاو حاكم عام السودان  بُعيد الاستقلال ، و الذي أوضح فيه أن أكبر  تحدي يواجه شعوب السودان هو كيفية إدارة التعدد والتنوع الذي يذخر به السودان ، ليكون هذا التنوع  مصدر قوة لا مصدر نزاع ، تتمدد ستة عقود ونصف من الحكم الوطني فشلت جميعها في إدارة التعدد العرقي وما أنتجه من تباين في الدين و اللغة و اللون ، بل وفقدت الشعوب السودانية شعب جنوب السودان الذي أسس دولته منفصلا عن الدولة السودانية مابعد الاستقلال ، وقد جاء إنفصال الجنوب نتيجة لخطأ المعالجات التي تبنتها الدولة السودانية في معالجة مسألة التعدد العرقي في السودان ، ومايتطلبه إدارة هذا التعدد من حقوق دستورية و سياسات إقتصادية وإجتماعية وسياسية وثقافية ، ذلك أن الاختلاف والتعدد هو إرادة الله في خلقه ، ولا يشكل الاختلاف والتعدد في حد ذاته عيبا أو نقصا أو مانعا للتوافق حول قضايا الدولة الواحدة ، وبناء الهوية التي تشعر كل المجموعات العرقية بالانتماء إليها ، ولهذا فان الإدارة الجيدة لمسألة التعدد العرقي ، توجب الإعتراف أولا بحق الاختلاف والتنوع بكل مستوياته ، يعزز  ذلك الحق بسط الحريات السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية لكل المجموعات العرقية ، فالحرية ضرورة لاغني عنها حتي تطمئن كل المجموعات العرقية وتبادل الدولة حقوقها وأجبات ، مما يسهم في إزدهار التعايش السلمي ، و تعزير القواسم المشتركة للهوية الوطنية الجامعة التي  تقف علي قاعدة متماسكة و متنوعة من إنتماءات أولية كالقبيلة والدين واللون والثقافة  ؛ والانتماءات الأولية هي قدر الانسان التي يولد بها ، ولا يختارها ، لهذا فعدم الإنغلاق أو التقوقع في أجندة هذه الانتماءات الأولية ، والانفتاح علي المجموعات العرقية الأخري هو مايقود الي بناء القواسم المشتركة كضرورة لبناء الدولة الوطنية الموحدة بوجدانها الجمعي ومصالحها العليا وهويتها التي يتشاركها الجميع .

والسودان ليس هو البلد الوحيد الذي يذخر بتعدد في القبائل و اللغات والديانات والألوان والثقافات ، وقد نجحت دول مثل سويسرا وماليزيا وهولندا و جنوب إفريقيا والنمسا وكندا من جعل التعدد مصدر ثراء وقوة ، وقد عالجت هذه الدول مسألة التعدد العرقي من خلال إعتماد دساتير توافقية تضمن مشاركة و تمثيل وحقوق كل القوميات علي تعددها وتنوعها، ورسمت من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية مايضمن ذلك ، ولم تغفل عن معالجة مأزق الأقليات في مواجهة الأكثرية كأحد نقاط الضعف عند تطبيق الديمقراطية التقليدية في المجتمع المتعدد ، فاعطت حق الاعتراض والنقض المتبادل بين الأقلية والأغلبية في المجتمع المتعدد لمنع إحتكار القرار ، كما أعتمدت التمثيل النسبي  في الانتخابات وفي المؤسسات ، وقد ساهمت هذه المعالجات في تسهيل مشاركة الجميع مما إنعكس إيجابا علي تقوية تماسك المجتمع والدولة ككل ، كما منحت حق الادارة الذاتية لكل أقليم في إطار مفهوم الدولة الواحدة والحكومة الواسعة القائمة علي تحالف جميع مكونات الدولة أكثرية وأقلية، ونجحت هذه الدول من خلال هذه الوصفة في خلق الانتماء ( للأمة الواحدة) علي قاعدة متعددة عرقيا ، وقد ذكر عالم السياسة الهولندي الاصل الأمريكي الجنسية أرنت ليبهارت في كتابه (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد )  والذي شرح فيه نظريته حول الديمقراطية التوافقية كعلاج لمشكلة المجتمعات المتعددة المنقسمة عرقيا ولغويا ودينيا وثقافيا أن الديمقراطية التوافقية وصفة لبناء الثقة في المجتمعات المنقسمة ، و يتطلب نجاح تطبيقها تعاونا من كل مكونات المجتمع المتعدد ، وإعتدالا ووسطية ومرونة من الجميع حتي يكون النظام التوافقي فاعلا ومنتجا وقابلا للاستمرارية والتطوير ،  لان تمترس أي مكون عرقي أو ثقافي  بمواقفه دون مراعاة لمصالح الأخرين ، قد يشل عملية إتخاذ القرار في الدولة والتي تتطلب تنازلات من الجميع ، كما أن التركيز علي تعظيم المكاسب والإمتيازات لإقليم أو مجموعة عرقية محددة في ظل الديمقراطية التوافقية قد يفجر  نزعات إستقلالية تكون مدخلا لتفكك الدولة .

 وفي واقعنا السوداني فقد أدي الفشل في صناعة دستور توافقي يعالج مسألة التعدد العرقي مع غياب القوانين الملزمة التي تضمن الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لشعوب السودان المختلفة علي تنوعها و تعددها الي نزوع بعض النخب التي تنتمي الي بعض المجموعات العرقية التي تشعر بالتهميش الي توظيف هذا الشعور سياسيا كرد فعل علي إحتكار مجموعات ثقافية وعرقية أخري للمجال العام سياسيا وثقافيا ، وقد قاد ذلك سابقا في التجربة السودانية لانفصال شعب جنوب السودان ، وإذا إستمرت ذات المعالجات الخاطئة للتعامل مع قضية التعدد العرقي ، فالنتائج بلاشك ستكون مزيدا من التقسيم ، وسيتشظي السودان الي دويلات علي أسس عرقية وثقافية.  

إن الحل للصراع العرقي في السودان ، يكون من خلال التراضي بين كل شعوب السودان علي دستور توافقي وقوانين ملزمة تحترم وتحمي خصوصية كل شعب وثقافته ، وتضمن الحريات و الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل شعوب السودان في إطار مفهوم الدولة الوطنية الواحدة التي تحقق مصالح الجميع ، وأن يكون التوافق الدستوري علي هدي الديمقراطية التوافقية  خطوة اولي في طريق إندماج  كل مكونات المجتمع تحت رأية الإنتماء للدولة والهوية الوطنية السودانية كحاضنة للجميع ، ولتعزيز هذا الإتجاه لابد من أن تعمل الدولة علي دعم وتطوير أدوات المجتمع المدني كالأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومنظمات العمل التطوعي وغيرها من الكيانات العابرة للانتماءات الأولية ، والتي توحد السودانيين علي أسس الفكر والقيم الانسانية متجاوزة العرق و العصبية النتنة.كما يكمن الاستفادة من التجارب الانسانية الناجحة لبناء نظام ديمقراطي توافقي في السودان تلبية لواقع وحاجة مجتمعنا المتعدد في هذه المرحلة الحرجة من عمر الأمة السودانية .

https://shihabeldinabdelrazigabdalla.blogspot.com/





































السبت، 12 مارس 2022

حول ثقافة الديمقراطية وراهن الصراع السياسي في السودان

 


           


                 

إن الديمقراطية علي تجددها وتنوع أشكالها تتفق في أنها منهج حكم يعتمد علي إرادة الشعب ، ويتيح تعددا في الرؤي والخيارات ، وسلطة الشعب تكتسب قيمتها الاخلاقية من مباديء المساواة والاستقلالية . والديمقراطية تجربة إنسانية ليست قاصرة علي عرق أو جغرافيه محدده ، والدليل علي ذلك أنها طبقت في اليابان وبريطانيا وأمريكا والهند وجنوب افريقيا علي تنوع هذه  الأعراق والجغرافيه. فالديمقراطية منهج حكم وثقافة إنسانية في آن واحد، تتيج للفرد والمجتمع وبكل حرية وشفافية ومسؤولية بناء الأدوات التي تلبي وتدير إحتياجاته دون إكراه أو عنف أو وصاية.

وتختلف قيم وموجهات وأنماط السلوك الديمقراطي باختلاف ثقافة وبيئة كل مجتمع ، لكنها تتفق في أغلبها  علي قيم الحرية ، والمساواة والتعددية ، والمواطنة ، والمشاركة ، والتضامن ، والحوار والذي بدوره لن يكون حوارا مفيدا الا إذا قام علي أسس الاحترام و الصدق والشفافية والتألف.

إن المبادي التي تؤسس للديمقراطية من فصل للسلطات الثلاث الي سيادة حكم القانون الي حكم الأغلبية الذي يحترم حقوق الاقليات إستنادا علي مبدأ ديمقراطي أصيل وهو إحترام حقوق الإنسان، وحقه في إنتخابات حرة نزيهة، وكفالة حرياته من حرية التعبير والتجمع والتنظيم وغيرها من الحقوق التي تشكل الضامن لحقوق الافراد ، فلا ديمقراطية دون إحترام حقوق الأقليات ، مرورا بحق  التمثيل والانتخاب ، والالتزام بالتداول السلمي للسلطة .هذه المبادئ الحاكمة للنظام الديمقراطي يتطلب الايفاء بها وعيا وإلتزاما فرديا ومجتمعيا، بل وثقافة سائدة تتشارك هذه القيم والمبادي وتصونها وتدافع عنها في وجه التسلط والاستبداد والإستعلاء وكافة مظاهر السلوك والثقافة الديكتاتورية ، ذلك أن ترسيخ الثقافة الديمقراطية في المجتمع يتطلب تغييرا في العقليات والتكوين النفسي و بناء العلاقات علي أسس ديمقراطية وأن يلتزم الفرد بتطبيق هذه القيم كسلوك في نفسه وبيته ومجتمعه المحلي وفي كل علاقاته بالبيئة من حوله ، وبذلك تستقر الديمقراطية كثقافة سائدة ، ومن ثم يمكن إستدامتها كنظام يلتزم به الفرد ويتوافق حوله المجتمع .

وباسقاط قيم وموجهات وأنماط السلوك الديمقراطي علي واقعنا السوداني وثقافتنا السائدة حاليا ، والتي في تقديري تعاني فقرا في القيم الديمقراطية ، وهذا الفقر القيمي لايرتبط فقط بمجتمعاتنا المهمشة أو محدودة التعليم والمعرفة أو التي يسيطر فيها الولاء القبلي علي حساب مفهوم المواطنة والولاء للدولة كحاضنه للجميع ، لكنه يظهر حتي في سلوك كثير من المؤسسات التي من المفترض أن تكون مهنية وقومية وملتزمة جانب القانون روحا ونصا ، فمثلا ، العنف المميت الذي تمارسه بعض مؤسسات الدولة في مواجهة الثورة السلمية يتعارض مع حق حرية التعبير والتجمع ،  والاستبداد والاستعلاء والإقصاء الذي تمارسه بعض النخب عسكرية أو مدنية هي من سمات الأنظمة الديكتاتورية ، وهي نقيض الديمقراطية ، بل إن بعضا من هذه السمات غير الديمقراطية وجدت طريقها الي أحزاب ونخب ذات واجهات ديمقراطية وسلوك يخالف تماما الثقافة الديمقراطية ، فمثلا الحوار القائم علي الاحترام والصدق والشفافية والتألف بين الأحزاب السياسية هو أحد القيم الديمقراطية الا أن كثيرا من العنف اللفظي والسجال الدائر في الفضاء السياسي، بل و في كافة المجالات في مجتمعنا ، يتعدي المفهوم الديمقراطي والايجابي للحوار والنقد ، ويقع ضمن إطار العنف النفسي سخرية وتجريحا وتخوينا وتسفيها للمخالفين في الرأي دونما إحترام لحرية الرأي والاستقلالية وحق الإنسان أو التنظيم أو المؤسسة في الاختلاف .كما أن بعضا من نخبنا و مؤسسات مجتمعنا الديمقراطية تضيق بالرأي الآخر ، وإن أظهرت غير ذلك ، وتعمل سرا للكيد علي المخالفين بالرأي( أفرادا أو تنظيمات) ، بل وتشويه صورتهم ظلما وعدوانا ، وذلك سلوك غير ديمقراطي يفتقد الي الاحترام والصدق والنزاهة والاستقامة والعدالة ، هذا عن نخبنا ومؤسساتنا التي بها قدر من الثقافة الديمقراطية، أما تلك المؤسسات والنخب ومجموعات المصالح التي تربت تحت كنف الثقافة الديكتاتورية ودافعت عنها ، ففي فقرها لثقافة الديمقراطية في أقوالها وأفعالها حدث ولا حرج ، وواقع حال وطننا بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر أبلغ من كل مقال . 

وفي حاضر الصراع السياسي الراهن في وطننا ، والذي هو احد تجليات ضعف الثقافة الديمقراطية في مجتمعنا  ، فقد إنقلبت المؤسسات العسكرية بقوة السلاح علي شراكتها مع  قوي الحرية والتغيير وأبعدتها من مؤسسات السلطة الانتقالية في تعارض تام مع ماجاء في الوثيقة الدستورية في سلوك ديكتاتوري يكرس لاستمرار ثقافة نقض العهود والمواثيق ، ويورث واقعا من إنعدام الثقة والانقسام ، قد يتجاوز مداه قمة السلطة ليصل ضرره لمؤسسات قاعدية من المفترض أن تكون قومية ومستقلة ومهنية وبعيدة عن الاستقطاب السياسي، كما أن الانقلاب أوقف مسيرة التحول الديمقراطي ، وألحق ضررا بمصالح الوطن العليا داخليا وخارجيا ، و في كل جوانب الحياة الاقتصادية والأمنية والاجتماعية ، كما أضر بالتطور السياسي في البلاد ثقافة وأدوات ، كون أن تجربة شراكة الأحزاب السياسية في الحكم ترسيخ لدورها الأصيل المختطف من قبل الشموليات العسكرية المتعاقبة باعتبار أن الأحزاب أداة للتنمية السياسية والحكم في المجتمع الديمقراطي، ولأن تطوير دور الأحزاب السياسية في المجتمع كاتحاد طوعي علي أساس الفكر يدعم إتجاه بناء دولة المواطنة التي تحترم التنوع وتحميه في وطن تصاعدت فيه روح العصبية للقبيلة ، بل وأصبحت مهددا لوحدة وتنوع وتماسك المجتمع ، كما أن تطوير الأحزاب السياسية وتحالفاتها لتقوم بدورها في النظام الديمقراطي يمنع طغيان الفرد ورأس المال، و يحد من تأثير الشعبوية التي تقدم خطابا حماسيا يعتمد الإثارة والكراهية . وفي رأيي ،  لايزال الرجاء كبيرا ومعقودا علي فكرة التحالفات السياسية لتكون الاداة السياسية التي يقوم عليها المشروع الوطني الديمقراطي ، وفي تجربة تحالف قوي الحرية والتغيير ، والتفاف كل مكونات الثورة علي إختلاف رأياتها تحت قيادته في الموجة الأولي لثورة ديسمبر التي توجت بخلع البشير ، مايؤكد ضرورة توحيد العمل المقاوم للانقلاب تحت مظلة واحدة ومركز قيادة واحد ،  حتي لاتصبح المقاومة الجماهيرية جزرا معزولة عن بعضها البعض مما يسهل علي قوي الانقلاب قمعها  ، وقد كان من الممكن أن تستمر تجربة تحالف قوي الحرية والتغيير الناجحة إن وضعت أليات لإدارة التباين والخلاف علي قاعدة الاتفاق علي الحد الأدني الذي يوحد كل قوي الثوره ، فجميع قوي الثوره تتفق  علي الأهداف ، وتختلف فقط في التاكتيك ليلوغ تلك الأهداف، وكل قوي الثورة تتفق علي خطورة النظام البائد علي حاضر ومستقبل الديمقراطية في السودان ، وتتفق علي ضرورة تفكيك جهاز الدولة الشمولي ،الذي يمثل قاعدة الهرم التي وقف علي رأسها  المخلوع لثلاثة عقود ، وتجديد  هذه القاعدة بجهاز دولة يقوم علي أسس المهنية والثقافة الديمقراطية ، وكان من الممكن أن يمضي التحالف بثبات في إنجاز هذه المهمه الرئيسية ، وفي انجاز الاصلاح القانوني وإكمال عملية السلام وإتمام نواقصه ليكون سلاما شاملا ومستداما ، لكن الطموحات الذاتية لبعض النخب والأحزاب وقوي الكفاح المسلح في معسكر الثورة ، أضرت كثيرا بتماسك ووحدة الشارع الثوري وبددت هذه الصراعات المبذولة في كل الوسائط الإعلامية ثقة قدر كبير من الثوار في رشد الطبقة السياسية بتركيبتها الحالية ، وفي مدي جديتها و إلتزامها بقيم وأهداف الثورة السودانية ، ومعلوم أن الصراع السياسي ليس بين طرفين ديمقراطي وإنقلابي فقط ، بل هو صراع متعدد الاقطاب ومتنوع الاتجاهات والمسارات ، ومنه مثلا الصراع فيما بين القوي السياسية المدنية داخل قوي الحرية والتغيير نفسها ، و يمتد الي خارجها في قوي الثورة المؤثرة غير الممثلة في هياكل تحالف قوي الحريه والتغيير كلجان المقاومة وتجمع المهنيين الذي مثل بجناح وأحد ، وكان من الحكمة تمثيل المجموعتين المتصارعتين في تجمع المهنيين داخل المجلس المركزي بل والعمل علي توحيد جهودهما ( إن تعذر رأب الصدع )  من خلال العمل المشترك و الاهداف المتفق حولها بين كل مكونات التحالف ، كما وتم تجاهل عدد من المجموعات الشبابية الفاعلة في الثورة ، والتي أثر سلبا عدم تمثيلها في المجلس المركزي للتحالف في إسماع صوتها، وخلق الرضا و التوافق علي القرارات التي تعبر عن خطها السياسي وقواعدها و مطالبها وأولوياتها ، ولابد من تصحيح هذا الخلل التنظيمي حال تم التوافق بين كل مكونات الثورة علي إعادة  توحيد مركز العمل المعارض للانقلاب ، كما لابد من تمثيل غير المنتمين حزبيا من المفكرين والمثقفين والاعلاميين و صناع الرأي ، في الداخل والخارج ، وقد كان في تجربة تحالف  (التجمع الوطني الديمقراطي) ما يعرف بالشخصيات القومية ضمن إطار هيئة القيادة ، ويمكن الاستفادة من تلك التجربة وتطويرها لتمثيل الملتزمين جانب الثورة من غير المنتمين حزبيا وفقا لمعايير ونسب يتم التوافق حولها ، و هذا في تقديري،  سيسهم في تعزيز المشاركة وتوسيع قاعدتها وتقوية التحالف السياسي ، كل هذه الإصلاحات يجب أن تتم بمشاركة ممثلين عن كل قوي الثوره علي قدم المسأواة ، وليس منحة من أحد ، و وفقا لميثاق سياسي جديد وأسس ومعايير متفق حولها، ولائحة تنظيمية معلنة وواضحة وعادلة ، تنتج مركز قيادة واحد ، يكون بالفعل ممثلا ومعبرا عن كل قوي الثورة ، يدير دفة الثورة في إتجاه تحقيق أهدافها ،كما لابد من مواصلة الحوار والتنسيق مع الحزب الشيوعي السوداني والتوصل لتفاهمات حول نقاط الخلاف التي دفعت الحزب الشيوعي لمغادرة صفوف التحالف رغما عن انه أحد مؤسسيه من خلال كتلة قوي الإجماع ،فمايجمع أضعاف أضعاف ممايفرق، وهدف الدولة المدنية الديمقراطية هو الغاية وإن تعددت الطرق لذلك،  بل والرجاء ، أن لايقتصر دور التحالف السياسي علي فترة الانتقال فقط ، بل أن يستمر لما بعد الانتقال ، ويخوض إنتخابات مابعد الفترة الانتقالية وفقا لقائمة موحدة وبرنامج متفق حوله يعبر عن مطالب وأهداف الثورة ، ويكمل ما لم يتم إنجازه في فترة الانتقال ، ذلك أن إصلاح خراب الدولة السودانية يحتاج لأكبر تحالف سياسي ثوري ممكن ومنسجم علي برنامج الحد الأدني ، تجميعا للجهود وتعظيما للنفوذ وتوحيدا للاتجاه والهدف نحو تأسيس سلطة مدنية ديمقراطية في دولة المواطنة و المؤسسات ، وحكومة تنفيذية منتخبة تهتم بالأمن والاقتصاد والعمران والخدمات ، فتحديات الراهن السوداني ذات طبيعة تأسيسية يتطلب إنجازها بناء أكبر تحالف سياسي ثوري مؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية وبقيم وأهداف ثورة ديسمبر المتجددة ، ولا يستطيع أي حزب بمفرده إنجازها أو تجاوزها ، خاصة أن كل أحزابنا السياسية علي إختلاف مدارسها الفكرية تعاني ضعفا في الموارد المادية والبشرية ، وتقادما في مرجعياتها الفكرية مما يتطلب تجديدا فكريا وبرامجيا عميقا في كثير من أطروحاتها النظرية ومناهج عملها لتتوافق مع متغيرات و روح العصر ، فتراكم وتطاول أمد الشموليات العسكرية وإستهدافها الممنهج للأحزاب السياسية أثر سلبا علي تمدد جماهيرية الأحزاب السياسية . وقد دفعت الأحزاب السياسية التي عارضت إنقلاب البشير تكلفة مواقفها المبدئية تشريدا وملاحقة لكوادرها ، وتجفيفا لمواردها وتحملت لثلاثة عقود صنوفا من الأذي والعذاب ،  ومن الانصاف، أن يكون لها القدح المعلي في تشكيل وهندسة مسار الانتقال ، والدعوة لابعاد الأحزاب السياسية من المشهد الانتقالي هي دعوة للشمولية، ولاختطاف القرار السياسي لمصلحة أفراد ومجموعات مصالح يسهل السيطرة عليها وإختراقها ، وذلك لانه من الصعب السيطرة علي مجموعة أحزاب سياسية لها برامج ومباديء وقيادات وقواعد ولها أرث من النضال والصمود ، ولها قبل كل ذلك مصلحة في التحول الي حكم مدني ديمقراطي مستدام .لهذا فالحاجة تفرض إستمرار تحالف الأحزاب السياسية والقوي المدنية والنقابية ولجان المقاومة ، ويمكن إختيار إسم جديد للتحالف ، بعد أن كان التمسك باسم قوي الحرية والتغيير ضرورة أقرتها نصوص الوثيقة الدستورية التي شيعها العسكر بانقلابهم في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ، علي أن يعكس الاسم الجديد أهداف قوي الثورة في تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية وقيمها في الحرية والعدالة والسلام . وإعادة بناء التحالف وتطويره علي أسس توافقية جديدة مهمة شاقة وتتطلب تواضعا من كل قوي الثورة ، وبأعجل مايكون ، فليس لدينا ترف الوقت ، فالانقلاب العسكري يتمدد يوما بعد يوم مدعوما بالانتهازية الفاسدة المساندة للشمولية من قواعد المؤتمر الوطني ومجموعات المصالح مدعومة بكل إمكانيات الدولة المختطفة ، وبما نهبته هذه المجموعات من ثروات بوسائل إجرامية خالية من أي سقوف أخلاقية أو دينية أو قانونية، كل ذلك بهدف تصفية الثورة السودانية وقبرها ، ولملمة أطراف النظام الشمولي الفاسد ، وترميم دعائمه المتهالكة، و يستثمر خطاب الثورة المضادة كثيرا في التناقضات التي يفرزها التباين السياسي في المواقف بين قوي الثورة الفاعلة ، عملا بمبدأ ( فرق تسد) ، وتبث الثورة المضادة سمومها عبر الشائعات، بعد أن فقدت مصداقيتها في الظهور العلني ككيان سياسي لفظته الجماهير في ثورة سلمية فريدة ، وليس بعيدا عن ذلك صراع أخر أكثر شراسة وعدوانية ، وهو الصراع المحموم بين مجموعات المصالح الاقتصادية المتنافسة حول الموارد والثروات والإمتيازات ، والمرتبطة عضويا بنخب وتيارات سياسية ومؤسسات محلية و عابرة للحدود ، تتبادل معها المصالح والخدمات. 

هذا الواقع المعقد بصراعه المركب والمستعر يسيطر علي الحالة السودانية تماما ، ويدور كل هذا الصراع حول قضية واحدة ، قضية السلطة والقياده ، علي إختلاف أهداف وأدوات ووسائل من يتنافسون حولها.

وفي تقديري ؛ أن فترة حكم رئيس وزراء الثوره المستقيل د. حمدوك  ناجحة تماما قياسا بما واجهته من عراقيل ومكائد وأزمات مفتعلة من داخل مؤسسات الدولة بشقيها المدني والعسكري وعلي كافة مستويات الحكم ، مما ساهم بقدر كبير وبشكل مباشر في تراجع الخدمات الأساسية المقدمة للجماهير في كافة ضروريات الحياة ، رغما عن الصمود الاسطوري للثوار في مواجهة التجويع والملاحقة والانفلات الامني، وقد فرض جهاز الدولة عقابا جماعيا علي شعبنا باهماله الخدمات وإفتعاله الأزمات وفي كل مناحي الحياة ، وذلك لزيادة منسوب السخط والغضب وسط المواطنين تشويها و تحريضا علي حكومة الثورة وإظهارها في ثوب العاجز ، لكن الشعب أقوي وأذكي ، فلم يستجب لمؤامرات جهاز الدولة ، ومع الصمود الاسطوري للثوار خلف رئيس الوزراء  د.حمدوك ومجلسه لم يكن هناك خيار أمام العسكر الا القيام بانقلاب عسكري تقليدي، وقد كان في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، حيث تم فيه حل الحكومة وتجميد العمل بالوثيقة الدستورية وإعتقال الوزراء والقيادات السياسية المنحازة للثورة ، وتقييد حركة وإتصالات رئيس الوزراء ، وغيرها من الانتهاكات مما إعتدناه من سلوك ديكتاتوري في الانقلابات العسكرية التقليدية ، وقد كان وعي الجماهير بما يحكيه جهاز الدولة المتأمر علي الثورة وحكومتها  متقدما حتي علي وعي القيادات السياسية والتنفيذية التي مثلت الثورة في الخدمة العامه ، والتي لم يكن رد فعلها حاسما وسريعا تجاه مؤامرات جهاز الدولة علي الثورة السودانية ،  والمفروض أن جهاز الدولة بمؤسساته المدنية والعسكرية جهاز خدمي يقدم خدماته بحياد و للجميع ، و الانتماء فيه والأولوية للمصلحة العليا للوطن و المواطن ، لا لحزب محدد أو حكومة بعينها  ، ذلك أن الاحزاب أداة لخدمة الوطن في المجال السياسي ، والولاء لها مهما عظم ليس غاية في حد ذاته بل وسيلة لخدمة إنتماء أكبر وهو الوطن ، وقد فضحت  تجربة ثلاثة عقود لكل من له بصر وبصيرة من منسوبي النظام البائد فساد حكمهم وأن نظامهم غير مؤتمن علي موارد ومصالح البلاد والعباد ، وكان الأجدي بعد تلك التجربة أن تنصرف مؤسسات الدولة بكل منسوبيها بغض النظر عن إنتماءاتهم الحزبية لدعم الثورة والتغيير خاصة بعد ثبوت فساد النظام المخلوع ، فالحكومات متغيرة ، ويجب أن لايكون عمل مؤسسات الدولة رهينا بوجود أشخاص محددين أو حزب بعينه في السلطة ، والمؤكد أن الثوار كانوا يريدون مدنية كاملة تنصرف فيها المؤسسات العسكرية لأداء مهامها الأساسية  في حفظ الأمن والدفاع ومايليها في الخدمات بمهنية وإحترافية ، وأن تطبق القانون كما يجب ، علي الشريف قبل الضعيف ، وأن تترك العمل السياسي للأحزاب السياسية ، لا أن تستحوذ علي السلطة وتفشل عمل شريكها المدني مع سبق الاصرار والترصد ، تعضدها في ذلك قوي الثورة المضادة في المؤسسات المدنية المحتكرة من قبل عضوية النظام البائد وحزبه الفاسد ، وقد شهدنا في تجربة النظام البائد عجبا ، وهو الجمع بين نقيضين لايجتمعان الا عند أغلبية( الكيزان) فهم (متدينون جدا وفاسدون جدا )، متدينون شكلا وفاسدون سلوكا  ، ولايطرف لأحدهم جفن في قتل الابرياء بدم بارد أو تعذيبهم  أو التعدي علي المال العام ، أو في أفضل الاحوال تقبل تلك الانتهاكات والتعايش معها وعدم إتخاذ موقف واضح ومعارض لها ، أما إذا تم تقديم( الكوز) الي التحقيق من جهة قانونية عن ما أقترقت يداه من فساد وإفساد (فذو دعاء عريض) تكفيرا للحكومة وتخوينا لها ، كما كانوا ينعتون بهتانا وزورا حكومة رئيس الوزراء المستقيل د.حمدوك. . وقد إستطاع دكتور حمدوك بما يتميز به من هدوء وحكمة ومرونة فكرية ورؤية لابعاد المشهد السوداني بكل زواياه الداخلية والخارجية السير بحكومة الانتقال في طريق وعر وشاق وشائك ،وأجتهد كثيرا في ترجيح توازن القوي لمصلحة قضايا الثوره في دوائر السلطة دون ضجيج وإدعاء أجوف ، إلا أن ماعايشناه علي أرض الواقع طيلة فترة حكومة الثورة يؤكد حقيقة صادمة أن إستقرار النظام السياسي الديمقراطي في السودان يحتاج إلي قطيعة شاملة مع إرث الشموليات (مؤسسات وهياكل وثقافة عمل وشخوص) ، وما لم يتم النظر في إعادة هيكلة  كل مؤسسات الدولة وفقا لهياكل وثقافة عمل تحترم المهنية والقانون وتؤمن بالديمقراطية وتنتهج العدالة ، وتعلي من قيمة الوطن وخدمة المواطن ، فلن يستقر التحول الديمقراطي، لانه من المستحيل أن يستقر النظام السياسي الديمقراطي للدولة علي قاعدة من الشمولية و الفساد، ذلك أنه مهما توفرت قدرات وعلاقات  لرأس الهرم التنفيذي فلن يستطيع العمل والانجاز دون قاعدة مهنية متعاونة تترجم تعاونها تنفيذا عمليا لسياسات وخطط وبرامج الحكومة ، بل وحتي قيادات الثورة في الجهاز التنفيذي التي أحسنت الظن في إمكانية إعادة تصحيح المفاهيم في جهاز الدولة وإنتهجت سياسة( التحييد)  في المؤسسات لم تحقق نجاحا في إنجاز عملها ، لانها في الأساس لم تواجه جهاز دولة قابل للحياد ، بل واجهت حزبا سياسيا إبتلع جهاز الدولة تماما ، وسيطر عليه فكريا وماديا، بل ومن جشعه ، أنشأ جهازا موازيا للدولة (خاطف لونين ، مزيج من عضوية حزب المؤتمر الوطني وعضوية الحركة الإسلامية ( أحمد وحاج أحمد علي حسب تعبير المخلوع الذي جاء ضمن وثائقيات الأسرار الكبري لحكم الإخوان في السودان علي قناة العربية ))، وقد أثقل هذا الجهاز الموازي فاتورة الصرف علي الخزانة العامة ، وكان هدف النظام من هذا الجهاز الموازي توسيع قاعدة المنتفعين منه وزيادة اعداد من يدنيون له بالولاء التام ، فمثلا في مواجهة جهاز الأمن الرسمي نشأ جهاز الأمن الشعبي كجهاز مواز ، وفي مواجهة وزارة الخارجية كمؤسسة حكومية نشأ جهاز الصداقة الشعبية كجهاز مواز ، وفي مواجهة الشرطة نشأ جهاز الشرطة الشعبية كجهاز مواز ، وفي مواجهة الجيش نشأ الدعم السريع والدفاع الشعبي كأجهزة موازية ،..والقائمة تطول ، والاختلاف بين جهاز  وأخر في أي من أجهزة الدولة الرسمية أو غير الرسمية ليس حول الولاء للنظام البائد فذلك متفق حوله ، بل في درجة الولاء للنظام البائد وحزبه الفاسد ، حيث يسيطر كوادر المؤتمر الوطني علي كل إن لم يكن أغلب مفاصل الدولة في مستوياتها العليا و الوسيطة والتشغيلية ، ويرون في الثورة السودانية وكل ما يمثلها تهديدا وجوديا يجب إزالته ومحوه تماما ، وهذا يفسر إستقرار الخدمات وتوفر السلع الأساسية بعيد انقلاب ٢٥ أكتوبر  ، رغما عن عدم إكتمال هياكل حكومة الانقلاب ، والتي تعمل حتي الان بدون رئيس وزراء ، وهذا يدلل علي أن أكبر معوق ومهدد لاستدامة التحول الديمقراطي في السودان هو جهاز الدولة ، وتاريخيا يمثل هذا الجهاز المترهل والفاسد القاعدة التي إستندت عليها كل الأنظمة الشمولية في السودان ، علي إختلاف توجهاتها الفكرية ، وهو جهاز معاد تماما للديمقراطية وثقافتها وقيمها ، وهو في تقديري الخطر الحقيقي الذي يواجه سلطة الثورة متي ماقدر لها الانتصار مرة أخري  ولابد من إعادة صياغته من جديد ، وهذا مايفسر  غضبة جهاز الدولة الشمولي (مدنيه وعسكريه، رسميه وموازيه) علي عمل لجنة إزالة التمكين ، والإستهداف الممنهج والمستمر لاعضاء اللجنة الموقرين ، ذلك أن اللجنة( من حيث المبدأ) قد وضعت مبضعها علي مكان الداء تماما ، لهذا لابد من تطوير ودعم عمل لجنة إزالة التمكين مستقبلا ودراسة تجربتها السابقة ومعالجة كل أوجه الخطأ والقصور فيها ، فالهدف من إزالة التمكين ليس الانتقام أو التشفي ولكن إزالة الفساد المتراكم الناتج من سوء الإدارة والمحسوبية وسيطرة حزب واحد علي جهاز الدوله، وفتح الطريق لدعم مسار التحول المدني الديمقراطي من داخل جهاز الدولة ، أيضا من القضايا التي أخذت حيزا في الجدل والنقاش ، قضية تعيين الوزراء من خلفية سياسية أم فنية في المجال المحدد (تكنوقراط) ، وفي رأيي يجب أن لانضيق واسعا ، فهناك وزارات يمكن للسياسيين أن يقدموا فيها اداء أفضل ، وهناك وزارات ذات طبيعة فنية يمكن للتكنوقراط أن يضيفوا قيمة لها ، وهناك سياسيون لهم خبرات وتجارب في مجالات متخصصة كما أن هناك تكنوقراط لهم حس سياسي سليم ، لهذا فالافضل أن تكون المعايير مرنة حتي نضمن إختيار الافضل من بين طيف واسع من المرشحين ، خاصة أن المرحلة الانتقالية تواجه تحديات سياسية وفنية في آن واحد وفي كل مستويات جهاز الدولة. اما بالنسبة لمنصب رئيس الوزراء ، فقد أثبت دكتور حمدوك حكمة ورشدا وبعد نظر في التعامل مع كثير من ملفات الانتقال المعقدة محليا ودوليا ، هذا إضافة لخبرته الاقتصادية وعلاقاته الدولية الوثيقة التي سخرها لمصلحة الوطن ، إضافة للقبول الواسع الذي حازه علي المستوي الجماهيري، وفي سابقة لم تتكرر ، فقد إتفقت حول شخصه إرادات متباينة سياسيا ومجتمعيا ، هذا القبول المجتمعي والدولي، يدعم حظوظ عودة د.حمدوك لمنصب رئيس الوزراء ، وهو جدير بهذه المسؤولية.

أيضا من القضايا التي تعكس مسؤولية المجتمع تجاه الانتصار لثقافة وقيم الديمقراطية ، قضية الشهداء والمفقودين والمصابين ، والناشطين الذين تضرروا جراء مواقفهم الشجاعة في الدفاع عن قيم الديمقراطية إما بالتعذيب أو الاعتقال أو الملاحقة والتضييق أو غيرها من أدوات التنكيل ، هذه القضايا تهم المجتمع ككل ، ويجب أن لاتهمل و تترك وكأنها قضايا فردية خاصة بأسر الشهداء و المفقودين والمصابين والناشطين فقط ، فهذه التضحيات قدمت من أجل المصلحة العامة للوطن ، وتجاهل التضامن والمساندة والدعم وجبر الضرر يعكس حالة من عدم المسؤولية والخذلان ، و بلادة في المشاعر تجاه قضايا الثورة والثوار .

إن نجاحنا كسودانيين في تطبيق الديمقراطية كنظام سياسي في مجتمعنا رهين بمدي تشبع أفراد مجتمعنا بالقيم الديمقراطية والممارسة العملية لها في البيت والمدرسة والجامعة ودور العبادة والحزب وغيرها من مؤسسات المجتمع ، وقد أتفقت أغلب الدراسات النظرية والتجارب الانسانية حول المسألة الديمقراطية في أنه لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين ، ولا ديمقراطيين من غير ثقافة وتربية وتعليم يقوم علي التنشئة بالقيم والموجهات والسلوك الديمقراطي، وأن ديمقراطية الحياة السياسية تنبع من ديمقراطية الحياة الاجتماعية.

إن فقر مجتمعنا للثقافة الديمقراطية يستدعي تضافرا للجهود من كافة الديمقراطيين في نشر وترسيخ قيم الديمقراطية ،وجعلها ثقافة تحرر أفراد مجتمعنا من كل أمراض التسلط والفساد والاستبداد والاستعلاء ، وهنا تبرز الحاجة (بعد عودة المسار الديمقراطي ) الي تطوير العملية التعليمية بشكل شامل(هياكل ومحتوي ) وإقرار سلوك تربوي يرتكز علي مباديء الثقافة الديمقراطية،  ويجرم العنف بكل أنواعه وأشكاله تجاه التلاميذ ، حتي لا نغرس فيهم ثقافة القمع منذ الصغر ، كما لابد من أن تتداعي المراكز  الثقافية والبحثية وأقلام الإستنارة السودانية في الداخل والخارج علي دراسة وتشخيص أمراض مجتمعنا وحالته الثقافية ، والتصدي بشكل علمي وعملي لمكامن وجذور ثقافة الاذعان و الرضوخ كخطوة في بناء الفرد الحر المستقل والمستنير ، الواثق من نفسه ، المشارك في صنع القرار ، والرافض لكافة أشكال التسلط والاستبداد والاستعلاء . وبما أن تجذر الثقافة الديمقراطية في الفرد و المجتمع عملية تراكمية ، فمن المؤكد أنه وبمرور الوقت ، و زيادة التعليم و الوعي وتطوير الممارسة الديمقراطية ، فسيتشبع الفرد ومن ثم المجتمع بقيم الثقافة الديمقراطية ، حينها يمكن للديمقراطية أن ترسخ في بلدنا كنظام سياسي بعد أن تستقر كمنهج حياة في مجتمعنا السوداني.