السبت، 3 فبراير 2024

مدحه في ذكر معجزات الله التي أيد بها عبده ونبيه سيد ولد أدم محمد رسول الله



الإهداء: إلي أحباب رسول الله صلي الله عليه وسلم


(النص)


نور المصطفى قبل خلق اللوح والقلم 

وأدم بين الروح والجسد

يامن أقرت نبوءته أنبياء الله

 وشهدت له الأرض من جبل ومن وهد

عليك السلام أيا رحمة مهدأة 

ويا شفيعا يوم تذهل أم عن الولد

 نار خبت غاضت بحيرة ساوه 

وإهتز إيوان كسرى بشرى من الصمد

إسال بحيري عن سر الغمامة 

وإسال حليمة عن ملكي بني سعد

وقف علي الإسراء ينبئك

 عن الإمامة في سفر بالروح والجسد

وليلة المعراج إذ شرفت

 به السماء علي أمر من الأحد

وطاف فيها علي طبقاتها السبع 

وحاز فيها علي سبق من المجد

الي سدرة المنتهى لا أنس ولاجن

 ولا ملك إلاك يامحمود بالحمد

وأسال عليا عن الفرسان إذ أغشوا

 وأسال سراقة عن رمل من المدد

وطف علي الغار الذي نسجت به

 جنود ربك خيطا علي عمد

وحاور الصديق إذ قال الحبيب له 

الله ثالثنا ونعم من سند

ومر علي أم معبد وأسمع مقالتها 

ودرَ ضرع بسم البأري الأحد 

إني لأعرف حجرا فيك يامكه

 الوحش والجذع وأيات بلاعدد

بعين الله عد مصارع الكفر 

وبرئت عيون الصحب من عتم ومن رمد

وجمع الأرض مشرقها ومغربها

 وشق القمر ألاء من الأحد

وفي القران إعجاز ولن يأتوا 

بسورته وإن كانوا علي عضد

وفي القران مغفرة ومعرفة 

وحفظ النفس من جهل ومن حسد

كلام الله نور علي قلب من النور 

وتشريع الي الدنيا من الصمد

وكيف المدح ؟والجبار مادحه 

والروح والصحب في بدر وفي أحد

و وأ فخراه يوم العرض

 يحمل نورنا فيه لواء الشكر والحمد

ويسال أمتي؟ وكل الرسل يانفسي

 ويشفع فيشفع صادق الوعد

وعند الحوض شرب ثم لا ظمأ

  ونظرات لوجه المحسن الصمد 


ديسمبر 2013

الأحد، 10 ديسمبر 2023

طريق السودان من المجتمع الانتقالي الي المجتمع الحديث





    "إن التعليم أقوى سلاح يمكننا إستخدامه لتغيير العالم"              (نيلسون مانديلا). 


           أطبقت الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على شعوب السودان المتعددة والمتنوعة في مختلف العهود والحقب. واصبحت المجتمعات السودانية اسيرة في مرحلة المجتمع الانتقالي، والمجتمع الانتقالي هو مجتمع ودرجة وسيط بين المجتمع الحديث و المجتمع البدائي . وسمات المجتمع الانتقالي بحسب عالم الإدارة الأمريكي فرد رجز انه مجتمع هش يتسم  بالإنتقائية في تطبيق القانون ؛ وأن توزيع الخدمات فيه غير عادل ؛ وأنه يعج بالاستبداد و الفساد الاداري وبوجود مراكز قوي ومجموعات مصالح  تغلب الشخصي علي المصلحة العامة .

ولن يغادر وطننا مرحلة المجتمع الانتقالي الي مرحلة المجتمع الحديث دون تغيير عميق في أخلاق و سلوك ومعارف ومهارات  الإنسان السوداني. و وسيلة هذا التغيير هو التربية والتعليم . لهذا فان المجتمع السوداني بحاجة إلى إقرار إستراتيجية تربية وتعليم جديده وفعالة تواكب الحاضر والمستقبل ، وذلك باعداد وإعتماد مناهج وهياكل تربية وتعليم تساهم في بناء الشخصية السودانية على أساس متين من مكارم الأخلاق و المعرفة والمهارات ، فالتربية والتعليم هي الوسيلة الناجعة لاحداث التغيير الإيجابي إجتماعيا وسياسيا وإقتصاديا للمجتمعات الانتقالية و البدائية على حد السواء. 

إن صياغة إستراتيجية شاملة للتربية والتعليم في وطننا تحتاج إلى جهد وعقل جمعي يضم كل المؤسسات التعليمية والمراكز التربوية والعلمية والبحثية الوطنية وماتضمه هذه المؤسسات من عقول وخبرات مهنية مستفيدة من التجارب العالمية الناجحة في هذا المجال الحيوي تلاقحا وتبادلا للمعرفة والتجربة بينها وبين المؤسسات التعليمية العالمية العريقة والمراكز العلمية و البحثية الرائدة في العالم المتقدم المتخصصة في هذا المجال دون إغفال لخصوصية شعوبنا الثقافية و واقعنا المتنوع و المتعدد. 

إن الجهل النشط الذي يسيطر على الفضاء العام في وطننا فكريا وسياسيا وإجتماعيا ويهدد وجود وبقاء الوطن، يتطلب سرعة التحرك في إتجاه إعتماد إستراتيجية للتربية والتعليم تعبر عن تحديات الحاضر وآفاق المستقبل في وطننا ، وتتيح لنا كشعب التحكم في قرارنا وفي إدارة مواردنا على الوجه الذي يحقق لنا كوطن وأمة اسباب التنمية والتقدم والازدهار. 

إن تجارب الشعوب والمجتمعات الحديثة في كل العالم أثبتت بما لايدع مجالا للشك من أن التربية والتعليم هي قاطرة التنمية و الحداثة التي نقلت المجتمعات البدائية و الانتقالية الي رحاب الحداثة والتقدم. 

إن سيادة حكم القانون واحترام التعدد والتنوع وإدارة الصراع السياسي من خلال النموذج الديمقراطي التوافقي والانتقال بالانتاج من الأدوات التقليدية الي عصر الصناعة والابتكار و تجسيد مكارم الأخلاق بالافعال وليس بالشعارات مثل إتقان العمل والصدق في المعاملات و إحترام الأخر  والالتزام بالقانون وغيرها من القيم والأخلاق الكريمة من سمات المجتمع الحديث، والتي يمكن الوصول إليها من خلال استراتيجية فعالة للتربية والتعليم. 

إن مناهج التربية والتعليم  المعبرة عن روح العصر وتحدياته المستشرفة لآفاق المستقبل المشبعة بقيم ومكارم الأخلاق هي طريق السودان للخروج من وهدته الانتقالية والارتقاء به الي مصاف المجتمعات الحديثة والمتحضرة. 


https://shihabeldinabdelrazigabdalla.blogspot.com/?m=1




السبت، 9 ديسمبر 2023

مشاهدات من مدينة عطبره



في الصورتين  أعلاه السينما الوطنية في مدينة عطبره وقد تحولت إلي مخزن لحديد التسليح بعد أن قام ملاكها باستئجارها الي المصنع السوداني الماليزي. والسينما الوطنية هي واحدة من ثلاثة دور للسينما في مدينة عطبره وقد كانت تشكل مع السينما الجمهورية وسينما عطبره الجديده بنية تحتية جيده للسينما وصناعتها في مدينة عطبره . علما بأن أول سينما في السودان شيدت في مدينة عطبره من قبل الجيش الانجليزي في العام ١٩٣١م  وهي سينما النجم الأحمر. وقد شهدت مدينة عطبره أيضا ميلاد وإنتاج  أول فيلم سينمائي روائي سوداني وكان بعنوان ( آمال وأحلام ) من إنتاج وأخراج رائد صناعة السينما في السودان الأستاذ الرشيد مهدي  وقد تم تصويره في ستينيات القرن الماضي وعرض للجمهور في مايو ١٩٧٠. 

و واقع السينما في مدينة عطبره الان في إظلام تام حيث أغلقت الدور الثلاثة للسينما أبوابها تماما وتحولت إحداها الي خرابة (السينما الجديده.).

هذا الواقع المحزن لأحد أهم أدوات الثقافة يطرح تساؤلات مهمة :

كيف يمكن أن نبني وطنا دون أن نبني إنسانا واعيا ومتعلما ومثقفا ؟ 

كيف يمكن أن نصنع سلاما مستداما  وعدالة وحرية في السودان دون أدوات لبناء الوعي والاستنارة في الانسان السوداني؟

كيف يمكن أن نبني إنسانا يقبل الحوار و التنوع ويحوله الي قوة لا الي حروب عبثية دون الاهتمام بأدوات الثقافة التي تبني وعي هذا الإنسان؟ 

 بل كيف يمكن من الأساس أن نبني إنسانا واعيا ومثقفا دون أدوات تثقيفية ؟ 

الوعي مكتسب وقابل للتطوير  ،  ويحتاج لأدوات منها السينما والمكتبات العامة ودور الرياضة والأندية والمراكز الثقافية والمجموعات الأدبية وغيرها من الأدوات . 

كل هذه الأدوات في طريقها الي الاندثار والتلاشي بفعل الإهمال و الصراعات والحروب . ومازال بعضنا يحلم ببناء مجتمع مستنير و متحضر .لكن هل يمكن تحقيق هذا الحلم دون أدوات ؟!.

الصورة أعلاه تجيب عن واقع حاضرنا البائس؛ والله المستعان. 





























الأحد، 15 مايو 2022

حول ضرورة تغيير العملة السودانية

 


                 

 


منذ إندلاع ثورة ديسمبر المجيدة إرتفعت الأصوات المنادية بضرورة تغيير العملة السودانية لأسباب أمنية وإقتصادية وسياسية وثقافية وإجتماعية . ولعل أبرز تلك الأسباب هو ضمان أمن وحماية وصحة العملات السودانية كأولوية قصوي لانها الحلقة الأهم في الإقتصاد والاستثمار خاصة من مهددات ومخاطر التزييف والتقليد والتزوير التي تؤثر سلبا علي الأمن الاقتصادي ، وللاستفادة من الطفرة التكنولوجية العالمية الهائلة التي حدثت مؤخرا في مجال مواد وتقنيات طباعة العملات وتتبعها وحصر الكتلة النقدية ومساراتها ، وتأمينها بعلامات معقدة ومبتكرة تجعل من الصعب تزييفها أو تزويرها ، علما أن محاضر وضبطيات الشرطة السودانية قد شهدت إرتفاعا في معدلات جرائم تزييف العملة السودانية الحالية وتزويرها ، ومايترتب علي ذلك من إضرار كبير بالاقتصاد السوداني ، ويعرف القانون تزييف العملة أو تقليدها أو تزويرها بأنه إنتاج نقود دون تفويض قانوني من دولة أو حكومة ، حيث تضعف النقود المزيفة قوة العملة الأصلية محليا وعالميا فيقل الطلب عليها و التجارة والتبادل بها نتيجة لفقدان الثقة في التعامل بها، وتزيد العملات المزيفة المعروض من العملة مما يضعف قيمتها الشرائية ويزيد من معدلات التضخم بل ويؤثر سلبا في قدرة الدولة علي الإصلاح الإقتصادي ، كما تؤثر سلبا علي المستهلك وتلحق الخسائر النقدية بالشركات ، كما أن تزييف العملة وتزويرها ينعش  الجريمة المنظمة ويساهم في تمويلها كجرائم المخدرات و الإتجار بالبشر والتجارة غير المشروعة للسلاح وجرائم الإرهاب.

و تغيير العملة السودانية يدعم  الاصلاح الأقتصادي من خلال جذب الكتلة النقدية من السوق الموازي الي القنوات الرسمية في الدولة مما يؤثر إيجابا في توسيع إمكانيات وفرص الاستثمار وزيادة التحصيل الضريبي ، بل وحتي في التخطيط الاقتصادي السليم المبني علي معلومات صحيحة ، خاصة أن هناك أراء إقتصادية تشير إلي إرتفاع كبير في نسبة المتداول من العملات السودانية في السوق الموازي ، وإجراء تغيير العملة خطوة أولي لاجبار السوق الموازي علي الاندماج في القنوات الرسمية ، علي أن تبحث الدولة الوسائل التي تحفز السوق الموازي علي الاندماج المستديم ضمن القنوات الرسمية.كما أن إنخفاض قيمة الجنيه السوداني بسبب التضخم الجامح يتطلب معالجة الاسباب الحقيقية للتضخم من خلال تشجيع الإنتاج المحلي والاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية وخفض الإنفاق الحكومي وتقليل الواردات وتشجيع الصادرات   وغيرها من السياسات ، إضافة الي مايلي العملة من إعادة تقييم لها وزيادة قيمتها ، (مثلا) بأزالة صفر من قيمة العملة السودانية لتصبح المائة جنيه من العملة الحالية تعادل عشر جنيهات من العملة الجديدة ، كما أن إعادة تقييم العملة السودانية وفئاتها يساهم في تقليل عدد أوراق النقد المطبوعة، وبالتالي يخفض من تكلفة طباعتها ، إضافة لذلك فأن سك عملة معدنية من فئات صغيرة كالجينه مثلا مع العملات الورقية ذات الفئات الأكبر يقلل أيضا من تكلفة الإصدار حيث أن متوسط عمر العملة المعدنية أطول بكثير من عمر العملات الورقية .

وإجمالا ، يدعم مسار تقوية العملة الوطنية  مايمتلكه السودان من ثروات وموارد طبيعية هائلة ومتنوعة ومنها الذهب مثلا والذي يمكن للدولة أن تبني إحتياطات مقدرة منه، لتعمل هذه الاحتياطات كغطاء للعملة السودانية يعزز من قوتها ، إضافة الي تشجيع وتعزيز القدرات الإنتاجية والتصديرية في البلاد وإصلاح الجهاز المصرفي كل ذلك يصب في إتجاه تحسين النمو الاقتصادي الذي ينعكس إيجابا علي قوة العملة السودانية. 

والعملة رمز للسيادة الوطنية وفي تصميمها وإختيار ألوانها ونقوشها وصورها ترميز إقتصادي و سياسي وثقافي وإجتماعي يعكس التطورات الشاملة التي تمر بها الدولة، وبعد ثورة ديسمبر المتجددة كانت الضرورة تفرض تغيير العملة السودانية القديمة وإستبدالها بعملة جديدة تعكس التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية وتعبر عن قيم و تطلعات شعبنا في الدولة المدنية الديمقراطية وقيم الحرية والسلام والعدالة في السودان.

ولابد من الإشارة الي أن إجراء تغيير العملة يحوي علي سلبيات إضافة الي إيجابياته الغالبة في حالتنا السودانية ، فمن سلبيات تغيير العملة التكلفة العالية لطباعة العملة الجديدة والتي من المفترض أن تكون من الجودة والتقانة بحيث يصعب تزييفها أو تزويرها كما أن تغيير العملة يتطلب مراجعة وتحديث العقود والالتزامات القانونية والمالية علي مستوي الدولة والشركات والأفراد ، إضافة الي ضرورة الانتباه الي تعزيز معرفة وكسب ثقة رؤوس الأموال في العملة الجديدة وفوائد هذا الإجراء في زيادة كفاءة وفعالية النشاط الاقتصادي لان الثقة عامل هام في تشجيع رؤوس الأموال علي إيداع مدخراتهم بالعملة الوطنية بدلا عن تخزين ثرواتهم في الأصول و المعادن النفيسة أو بشراء العملة الصعبة كالدولار واليورو .

 وفي رأيي ، أن السودان في ظل الوضع الاقتصادي الحالي الذي يعاني من التضخم الجامح والواقع الأمني الذي تتصاعد فيه وتيرة جرائم تزييف العملة السودانية وماتمثله من تهديد لسلطة الدولة وللتبادل التجاري وللأمن القومي بشكل عام في حاجة لإجراء تغيير العملة السودانيه لما لهذا الإجراء من إيجابيات كثيرة مقارنة بالسلبيات.هذا مع تأكيد أن أجراء تغيير العمله لن يكون وحده قادرا علي الحد من الفساد والتهرب الضريبي أو التزييف أو غيرها من الجرائم الاقتصادية ما لم يتم إصلاح القطاع المصرفي بشكل مؤسسي وعلمي وجذري ، كما لن يكون هذا الإجراء كافيا لإعادة انطلاقة الاقتصاد ما لم تصاحبه سياسات تعزز من الإنتاج و الصادر وتقلل من الإنفاق والوارد.

وفي سياق عملية تغيير العملة  لابد من دراسة تجارب الدول التي قامت بتغيير عملاتها كالهند وتركيا والبرازيل والاستفادة من هذه التجارب الناجحة لتحقيق الأهداف المرجوة من هذه العملية بكل سلاسلة ومرونة وإتقان.‬


    



















الخميس، 5 مايو 2022

حول الجهود الدولية المبذولة في قضية التغير المناخي


 

تعرف الأمم المتحدة تغير المناخ بأنه التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس. ومنذ الثورة الصناعية تفاقمت ظاهرة الإحتباس الحراري الناتج من النشاط البشري ، حيث يعيق تراكم غازات الإحتباس الحراري في الغلاف الجوي  الإنعكاس الحراري من سطح الأرض إلى الفضاء الخارجي، وبذلك تظل الحرارة حبيسة الغلاف الجوي للأرض ، مما يرفع درجة حرارة الكوكب .

ومع تزايد تركيز غازات الإحتباس الحراري في الجو ، وأهمها غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن إحتراق الوقود الأحفوري ( البترول والفحم الحجري والغاز الطبيعي ) تتزايد العلامات والكوارث المرتبطة بالتغير المناخي ، و تبدو أبرز علامات التغير المناخي في إرتفاع درجات الحرارة في كل أنحاء العالم ، وقد زادت درجة حرارة الأرض ، وأصبحت أكثر دفئا بنسبة 1.1 درجة مئوية مما كانت عليه في القرن التاسع عشر ،  و تشمل عواقب وكوارث تغير المناخ الجفاف والحرائق والفيضانات وتقلص مساحة اليابسة والعواصف وتدهور التنوع البيولوجي  والانتاج الغذائي. 

وقد كانت أبرز الخطوات القانونية للأمم المتحدة بشأن قضية تغير المناخ هو إنجاز إتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ الموقعة في العام ١٩٩٢ فيما يعرف بقمة الأرض والتي عقدت في مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل ، وصادقت عليها حتي الأن ١٩٦ دولة إضافة للإتحاد الأوروبي ، وتهدف الي منع  التدخل البشري الخطير علي النظام المناخي ، وأنبثق من هذه الاتفاقية مؤتمر الأطراف وهو هيئة إتخاذ القرار ، ويُعقد مؤتمر الأطراف الذي يضمُّ جميع الدول الأطراف في الاتفاقية كلَّ عام بهدف تقييم تطبيق  الإتفاقية ، والتفاوض علي إلتزامات جديدة تدعم تنفيذ أهداف الإتفاقية الإطارية .

أعقب ذلك توقيع بروتوكول كيوتو للمناخ الموقع في العام ١٩٩٧ والمصادق عليه من ١٩٥ دولة ، وبروتوكول كيوتو في اليابان أول خطوه تنفيذية لانزال إتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ علي أرض الواقع بهدف خفض إنبعاثات غازات الإحتباس الحراري خاصة ثاني أكسيد الكربون ، إلا أن بروتوكول كيوتو لم يحقق أهدافه لعدم توقيع الولايات المتحدة الأمريكية عليه ، وإنسحاب بعض الدول الاخري منه مثل روسيا وكندا واليابان وغيرها ، وتمت الاستعاضة عن بروتوكول كيوتو الذي إنتهي أجله في ٢٠٢٠ بإتفاقية باريس للمناخ الموقعه في أبريل من العام ٢٠١٦ والموقع عليها حتي الأن من قبل ١٩٤ دولة بالاضافة إلي الاتحاد الأوروبي  و تهدف الي تعزيز إستجابة العالم لخطر تغير المناخ من خلال تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي الحد من إرتفاع درجة الحرارة الي 1.5  درجه مئويه ، و مراجعة التزامات الدول بشأن خفض الإنبعاثات كل خمس سنوات ، وأخيرا توفير التمويل المتعلق بالمناخ للدول النامية.

وقد طالب تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ الصادر في أكتوبر من العام ٢٠١٨  العالم بضرورة الحد من الإحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية وأن ذلك بحسب نص التقرير " يتطلب تحولات سريعة وبعيدة المدى في الأرض والطاقة والصناعة والمباني والنقل والمدن " ، و أنه يجب أن تنخفض الانبعاثات العالمية الصافية الناتجة عن إنبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو ٤٥٪ عن مستويات عام ٢٠١٠ بحلول عام ٢٠٣٠ ، لتصل إلى "صافي الصفر" في حوالي عام ٢٠٥٠ ، وهذا يعني إزالة أي إنبعاثات متراكمة ومعلقه لثاني أكسيد الكربون في الهواء.

وقد أشارت إحصائيات الأمم المتحدة الي أن التحول للإقتصاد المراعي للبيئة يمكن أن يؤدي الي مكاسب إقتصادية تقدر ب٢٦ تريليون دولار حتي عام ٢٠٣٠   مقارنة بالاقتصاد المعتاد ، كما يمكن أن تنتج ٢٤ مليون وظيفة مقارنة بفقدان ٦ ملايين وظيفة نتيجة للتحول الي الطاقة المتجددة والمباني الموفرة للطاقه وتصنيع المركبات  الكهربائية. 

وقد أسفرت الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأطراف، التي عقدت في نوفمبر من العام ٢٠٢١ في مدينة غلاسكو باسكتلندا ، علي الإتفاق على قواعد تطبيق إتفاق باريس للمناخ أو مايعرف بلائحة قواعد باريس ، والتفاصيل التشغيلية للإتفاق.

وأكدت كل الدول المشاركة علي ضرورة الالتزام بخفض درجات الحرارة العالميه الي اقل من درجتين مئويتين والسعي للحد منها إلى 1.5.كما تعهدت الدول المشاركة في الالتزام بخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة ٤٥٪  للوصول إلى صافي صفري في ٢٠٥٠ م ، كما  أتفقت الدول المشاركة علي أهمية التخلص التدريجي من الإعتماد علي الوقود الأحفوري المسبب للإحتباس الحراري، وإن شكك ناشطون في مجال البيئة علي صدق وجدية إلتزام هذه الدول في الايفاء هذا الإلتزام .

كما توافقت الدول المشاركة علي ضرورة الحوار لمناقشة الترتيبات الخاصة بتمويل الأنشطة المكافحة لتقليل الأضرار السالبة لتغير المناخ.وقد كان موضوع التمويل أحد نقاط الخلاف الرئيسية في مؤتمر غلاسكو ، حيث تراجعت دول الشمال عن تعهدات إتفاق باريس للمناخ الذي ينص علي دعم مالي يقدر ب١٠٠ مليار دولار سنويا لدول الجنوب بداية من عام ٢٠٢٠ في إطار دعم دول الجنوب للتحول لمصادر الطاقة النظيفة ومعالجة أضرار التغير المناخي ، وقد دعا المؤتمر الدول الغنية لمضاعفة تمويلها المالي للتعامل مع تغير المناخ بحلول عام ٢٠٢٥ م.

وقد أثمر المؤتمر عن تعهدات واتفاقات بين عدد من الدول فيما يخص الحفاظ علي الغابات والغطاء النباتي وقد إلتزمت ١٣٧ دولة بذلك ، كما التزمت مؤسسات مالية بالقضاء علي كل الاستثمارات المرتبطة بإزالة الغابات، كما التزمت ١٠٣ دولة 

بالحد من إنبعاثات غاز الميثان أحد الغازات المتسببة في الإحتباس الحراري،وتخفيضه بنسبة٣٠٪ بحلول عام ٢٠٣٠   مقارنة بمستويات عام ٢٠٢٠، كما تم الالتزام بين أكثر من ٣٠   دولة وست شركات تصنيع سيارات علي أن تكون جميع مبيعات السيارات خالية من الانبعاثات علي مستوي العالم بحلول عام ٢٠٤٠. كما أنشي تحالف في غلاسكو بين مؤسسات القطاع الخاص والبنوك المركزية بأصول مالية تقدر ١٣٠ تريليون دولار بهدف تحقيق صافي إنبعاثات صفرية علي مستوي العالم إستثمارا في المعرفة والعلم والتقنيات للوصول لتحقيق هذا الهدف.

كما تم عقد شراكة بين دولة جنوب إفريقيا وعدد من الدول المتقدمة للانتقال بجنوب أفريقيا من الإعتماد علي الفحم الي مصادر طاقة بديلة منخفضة الكربون وقد رصدت لذلك ميزانية تقدر بثمانية ونصف مليار دولار.

وبرغم ماتحقق من تعهدات في مؤتمر غلاسكو للمناخ في قمة الأطراف ٢٦  ، الإ أن رئيس قمة الأمم المتحدة للتغير المناخي كوب ٢٦ السيد (ألوك شارما) وصف ماتحقق في غلاسكو بأنه:" إنتصار هش". 

وفي مؤتمر  المناخ كوب ٢٧ المنعقد في شرم الشيخ بجمهورية مصر العربية في نوفمبر ٢٠٢٢ تم إقرار صندوق الخسائر والاضرار لمساعدة البلدان الفقيرة على معالجة آثار التغيرات المناخية كما تم اضافة مصطلح الحلول المستندة للطبيعة كتعزيز  الغابات وحمايتها  حيث تعهد الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا بالتوقف عن إزالة غابات الأمازون بحلول عام ٢٠٣٠ . 

كما تم مناقشة ازمات التنوع البيولوجي وعلاقتها بأزمات التغير المناخي،  و زادت عدد من الدول والمنظمات تعهداتها المالية لمواجهة مخاطر التغير المناخي. لكن يبقى المحك الحقيقي هو مدي التزام هذه الدول والمنظمات بما وعدت به، والوفاء بهذه الإلتزامات المالية التي يمكن أن تساهم  في تخفيف آثار التغيرات المناخية. أيضا تم مناقشة ضرورة التخفيف من الانبعاثات الكربونية وضرورة ان تتحول الشركات والدول الي مصادر الطاقه المتجددة.  

وفي مؤتمر المناخ كوب ٢٨ الذي أنعقد في  نوفمبر من العام الماضي في مدينة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى مدار اسبوعين، وبحضور أكثر من ٨٠ الف شخص، حيث تم إنشاء صندوق " ألتيرا "  للتمويل المناخي من قبل دولة الإمارات برأس مال قدره ٣٠ مليار دولار ، وصندوق ألتيرا صندوق إستثماري خاص صمم  لسد فجوة التمويل المناخي وتيسير الحصول عليه بتكلفة معقولة ، و يهدف إلى جمع واستثمار ٢٥٠ مليار دولار بحلول عام ٢٠٣٠. بالاضافة إلى ذلك تعهد مؤتمر كوب ٢٨ بأكثر من ٨٥ مليار دولار كالتزامات مالية تجاه قضايا المناخ.كما  تم تفعيل صندوق الخسائر والاضرار الذي تم إقراره في قمة شرم الشيخ للمناخ (كوب ٢٧)  بتعهدات مالية لاتقل عن ٧٩٢ مليون دولار مساعدة للبلدان الفقيرة  للتعامل مع الآثار الكارثية لتغير المناخ .

كما تم التوصل إلى اتفاق يقضى بضرورة الانتقال من استخدام الوقود الأحفوري في أنظمة الطاقة، بطريقة متدرجة وفعالة وعادلة ، لتحقيق  هدف صافي انبعاثات صفري بحلول عام ٢٠٥٠. 

كما انتقد مؤتمر المناخ كوب ٢٨ الدول الغنية لعدم التزامها بتعهداتها المالية السابقة والتي قطعتها على نفسها منذ سنوات خلت وتقدر ب ١٠٠ مليار دولار سنويا. حيث تقدر  حاجة دول الجنوب لمبلغ 2.4 تريليون دولار سنويا للتعامل مع تحديات تغير المناخ . 

ما سبق محاولة لعرض أبرز المحطات والجهود الدولية المبذولة في قضية التغير المناخي التي تمثل أكبر تحد يواجه كوكبنا ويهدد إستمرار الحياة فيه ، وقضية التغير المناخي قضية ذات طبيعة عالمية  ، وتحتاج الي أكبر تعاون وتضامن دولي ممكن ، وهي إمتحان صعب يواجه المنظومة الدولية من أجل تلافي الآثار الكارثية لتغير المناخ علي حاضر ومستقبل الحياة والناس في كوكب الأرض ، والمقال دعوة لكل الناشطين ولصناع الرأي للاهتمام والتنوير بقضية التغير المناخي وقضايا البيئة علي وجه العموم ، ووضعها في صدارة إهتمامات الرأي العام المحلي والعالمي ، خاصة مع إرتفاع أصوات التيارات التي تدعو للنمو الإقتصادي الذي لايراعي ضمان سلامة البيئة والمحافظة علي صحة وحياة كوكب الارض. 


    
































الجمعة، 22 أبريل 2022

إضاءات حول الإقتصاد الإبداعي


خصصت الأمم المتحدة العام الماضي عاما للاقتصاد الإبداعي أستجابة لمبادرة إندونيسية و بموافقة من 81 دولة حول العالم ، هذا التأييد الدولي يعكس حجم إهتمام العالم بهذا النموذج الاقتصادي ، حيث تقدر الأمم المتحدة مساهمة الاقتصاد الابداعي بمايعادل 3%  من الناتج الإجمالي العالمي ، بقيمة تقدر ب 2.25 تريليون دولار أمريكي سنويا ، وأن هذا النموذج الاقتصادي سيكون أحد المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي ، و يري إقتصاديون أن أثر الاقتصاد الإبداعي أكبر من ذلك بكثير وأن الوعي بتأثير هذا النموذج الاقتصادي علي أهداف التنمية المستدامة مازال محدودا خاصة في دول الجنوب ، وأن الإحصائيات والمعلومات والدراسات حول تاثير الاقتصاد الإبداعي تحتاج الي إهتمام وتجويد أكبر .

والإقتصاد الإبداعي بحسب منظمة اليونسكو و برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يوجد في المكان الذي تلتقي فيه الفنون والثقافة والتجارة والتكنولوجيا. و يشير الباحث البريطاني جون هوكنز مؤلف كتاب (الإقتصاد الإبداعي) الصادر في العام 2001 ، الي أن الاقتصاد الإبداعي يقوم علي تفاعل الإبداع البشري وقوانين الملكية الفكرية والمعرفة والتكنولوجيا ، وبحسب هوكنز فأن قائمة أنشطة الإقتصاد الإبداعي تضم الهندسة المعمارية ، والفن ، والحرف اليدوية ، والتصميم ، والإعلان والأزياء ، والأفلام ، والموسيقى ، والفنون المسرحية ، والنشر ، والبحث والتطوير ، والبرمجيات ، والتلفزيون ، و الراديو وألعاب الفيديو .

وتري المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) أن الاقتصاد الإبداعي قائم علي إنتاج وتسويق  الإبداع المحمي بحقوق الملكية الفكرية ، و الوعي بأهمية حقوق الملكية الفكرية جوهري و ضروري لتطوير الاقتصاد الإبداعي ، وضمان حقوق المبدعين والناشطين إقتصاديا في صناعة الفن والثقافة .

والإهتمام بالاقتصاد الإبداعي حول العالم لا يقتصر علي الدول المتقدمة فقط ، بل زاد الإهتمام بهذا النموذج في عدد من الدول النامية مثل إندونيسيا التي أضافت لوزارة السياحة قطاع الاقتصاد الإبداعي ، وأصبحت تعرف هناك بإسم وزارة السياحة والاقتصاد الإبداعي ، كما حددت إندونيسيا قائمة نشاطات الاقتصاد الابداعي ، وأنشات مؤسسة مختصة بقضايا الاقتصاد الإبداعي تعرف باسم ( الوكالة الإندونيسية للاقتصاد الإبداعي ) وتعني برسم السياسات والتنسيق بين المؤسسات الحكومية بهدف تهيئة الظروف للاقتصاد الإبداعي حتي يصبح دعامة أساسية للاقتصاد الوطني الإندونيسي ، وذلك من خلال تمكين الشركات الإبداعية الاندونيسية علي النمو وزيادة قدراتها التنافسية ، وتنشط تلك الوكالة في ستة محاور هي البحث والتطوير والتعليم ، والحصول على رأس المال ، والبنية التحتية والتسويق والتسهيل ، وتنظيم حقوق الملكية الفكرية ، والعلاقات الحكومية الدولية ، والعلاقات المحلية. وبحسب إحصائيات رسمية فقد حقق الاقتصاد الإبداعي في إندونيسيا في العام 2017 ما يزيد على 7 % من إجمالي  الناتج المحلي  ، ووظف نحو 15.9 مليون شخص ، وتاثيره علي الاقتصاد الإندونيسي في نمو و تصاعد مستمر كل عام .

والتجربة الإندونيسية ليست الوحيدة أو الأخيره فقد نشطت مؤخرا إمارة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة في الإهتمام بالاقتصاد الإبداعي ورسمت إستراتيجية متكاملة لتعزيز تنوعها الإقتصادي من خلال تطوير وتحرير القدرات الكامنة في الاقتصاد الإبداعي ، وتهدف إمارة دبي من إستراتيجيتها تلك إلى زيادة عدد الشركات والمؤسسات الإبداعية والثقافية لتصل الي عدد 15000 شركة ، لتساهم بما يعادل  5% من إجمالي  الناتج المحلي للإمارة ولتخلق 140 ألف وظيفة في قطاعات الاقتصاد الإبداعي المختلفة وذلك بحلول العام 2026 ، وجعل إمارة دبي مركزا للاقتصاد الإبداعي علي مستوي المنطقة والعالم ، وذلك من خلال جذب المبدعين الذين يرغبون في تأسيس أعمالهم الإبداعية ذات الطابع الإقتصادي في دبي عبر منحهم تسهيلات في  الإقامة والفيزا الثقافية طويلة الأمد.

وعلي مستوي الاقتصاديات الكبري ، و وفقا للتقارير المنشورة وبيانات مكتب التحليل الاقتصادي في وزارة التجارة الأمريكية لعام 2017 ، فقد بلغ الناتج الإقتصادي في قطاعات الاقتصاد الإبداعي نحو 920 مليار دولار، بمساهمة تقدر ب 4.3 % من إجمالي الناتج المحلي ، فيها نحو 33 مليار دولار فائض تجاري من تصدير الأعمال الفنية والسلع والخدمات الثقافية كالأفلام وألعاب الفيديو .

أما في الصين فقد أسهمت القطاعات الإبداعية بما يزيد على 460 مليار دولار في الاقتصاد الوطني ، أي ما يوازي نحو 4 % من إجمالي الناتج المحلي .

 ووفقا لتقديرات 2018 فإن الاقتصاد الإبداعي في بلدان الاتحاد الأوروبي أسهم بما يعادل 5.3 % من إجمالي الناتج المحلي للإتحاد الأوربي ، أي ما يعادل 550  مليار دولار وساهم في خلق 12 مليون وظيفة . 

هذه المساهمات المؤثرة للاقتصاد الإبداعي علي مستوي الاقتصاديات الكبري، والاهتمام المتعاظم بتطوير هذا النموذج الاقتصادي علي مستوي الدول النامية يعكس إتجاه العالم نحو تعزيز الاقتصاد الإبداعي باعتباره من أكثر وأسرع القطاعات الاقتصادية  نموا في العالم .

وقد ركز المؤتمر العالمي للاقتصاد الإبداعي الذي عقد في دولة الإمارات مطلع ديسمبر 2021   تحت شعار ( إبداع متكامل يصنع المستقبل) على ستة محاور أساسية وهي: إطلاق قدرات التعليم ، وإعادة إبتكار العمل، والتحول التكنولوجي، وتعزيز المشهد الإعلامي وقنوات التواصل، ومستقبل مستدام، والتنوّع والشمول .

كما ناقش المؤتمر في أجندته قضايا دعم الثقافة والصناعات الإبداعية ، و الدعم المالي للمبدعين ، وتوفير التمويل من الحكومات أو القطاع الخاص أو القطاعات المجتمعية ، ودعم ريادة الأعمال للمبدعين، والاهتمام الأكبر بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. 

فيما أكدت منظمة اليونسكو علي لسان رئيستها ضمن فعاليات المؤتمر  العالمي للاقتصاد الابداعي علي أن هناك ثلاثة تحديات ملحة تواجه الاقتصاد الابداعي خاصة في اوقات الازمات مثل ماحدث من تداعيات سالبة علي صناعة الثقافة والفنون والمبدعين  إبان جائحة كوفيد 19 , وأول التحديات هو حماية المبدعين وتحسين ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية لهم ، والتحدي الثاني هو التحول التكنولوجي ورقمنة الثقافة التي تخلق مزيدا من الفرص ومزيدا من التحديات في نفس الوقت ، خاصة فيما يتعلق بقضايا التوزيع ، أما التحدي الثالث فهو الحاجة لبيانات أكثر موثوقية ودقة لفهم التحديات التي تواجه الاقتصاد الإبداعي وقطاع الثقافة بما يضمن رسم السياسات المستقبلية للاقتصاد الإبداعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

 وقد أشار تقرير الأمم المتحدة حول الإقتصاد الإبداعي في نسخته العربية المنشور في عام 2015  الي عشرة مفاتيح أساسية لنمو الإقتصاد الإبداعي، منها : ضرورة  الوعي العام بأنّه إلى جانب الفوائد الاقتصادية يستطيع الاقتصاد الإبداعي أن يولّد قيمة غير نقدية يمكنها أن تسهم كثيراً في تحقيق نمو شامل ومستدام يرتكز على الأفراد والمجتمعات ؛ إضافة الي ضرورة جعل الثقافة أداة تحفيز ودعم لعمليات النمو الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ؛ وإبراز الفرص من خلال رسم خارطة الموارد المحلية للاقتصاد الإبداعي  ؛ وأكد التقرير  علي أهمية تقوية أساس المعرفة من خلال جمع البيانات الدقيقة ؛ و ضرورة البحث في الروابط بين القطاعات الرسمية وغير الرسمية  ؛ ولفت التقرير الأممي الانتباه الي اهمية الاستثمار في بناء القدرات المحلّية لتمكين أصحاب المبادرات المحلّية والموظفين الحكوميين وشركات القطاع الخاصّ ؛كما أشار التقرير الي ضرورة تفعيل التعاون الدولي المثمر خاصة بين دول الجنوب من أجل تسهيل التعليم المتبادل ؛ وإدخال الثقافة في برامج النمو الاقتصادية والاجتماعية المحلية.

وقد إتفقت الأراء العلمية حول عناصر السلسلة القيمية المكونة لمنظومة الصناعات الثقافية والإبداعية وهي الابتكار، والإنتاج، والتوزيع، وقنوات النفاذ للمنتجات والخدمات الناتجة من القطاع الابداعي المعين ، و أن تقوية كل عنصر في هذه السلسلة يسهم بشكل فاعل في استدامة النمو ، ومايترتب علي ذلك من أثر إيجابي.

وفي ظل الإهتمام العالمي المتعاظم بالاقتصاد الإبداعي ، لابد للدولة والمجتمع في السودان من تطوير إستراتيجية شاملة تشجع الصناعات الإبداعية والثقافية وذلك من خلال تهيئة البيئة التشريعية و الإستثمارية اللازمة لازدهار الإقتصاد الإبداعي ، وتوفير سبل تمويل مرنة تعمل علي تشجيع المبدعين السودانيين لدمج الإبداع مع الفرص الإستثمارية المتاحة محليا وإقليميا ودوليا لتوليد قيمة إقتصادية وإجتماعية وثقافية ، كما أن الاقتصاد الإبداعي وثيق الصلة بمجالات عديدة كالتجارة والاتصالات ، لهذا لابد من الإهتمام بتطوير البنية التحتية لكل القطاعات المتداخلة في نشاط الاقتصاد الإبداعي. و لابد أن تعبر سياسات الاقتصاد الابداعي عن حاجة ومطلوبات المجتمعات المحلية في قضايا التعليم والهوية الثقافية والبيئة .

ورغما عن وجود أساسيات علمية وعالمية متفق حولها تحفز نمو الاقتصاد الإبداعي لكن هذه الأساسيات لاتنفي البصمة المميزة لكل بلد في موارده الابداعية وميزاته التنافسية القابلة للإستثمار ، وعلينا في السودان إكتشاف مكامن القوة التي يتميز بها إقتصادنا الإبداعي ، ورسم السياسات التي تضمن تطويرها وتقويتها ومعالجة نقاط الضعف ، خاصة مايلي مراجعة و تطوير التشريعات المتعلقة بمنظومة الملكية الفكرية في السودان وتطويرها ، وتصنيف المهن والوظائف العاملة في الاقتصاد الإبداعي ، وتطوير سياسات محفزة  للمبدعين  ، إضافة إلى وضع معايير تحدد جودة الصناعات الثقافية والإبداعية ، وقياس مؤشرات الأداء ، كخطوات ضرورية للنهوض بالاقتصاد الإبداعي في السودان. 


    




































السبت، 16 أبريل 2022

حول السياسة الثقافية في السودان

 


    

     

 

يرجع الفضل في إثراء مفهوم السياسة الثقافية في الدوائر الأكاديمية الي عالم السياسة الأمريكي دكتور كيفن في مولكاهي  ، وإن كان تطوير فكرة السياسة الثقافية يعود الي أدبيات منظمة اليونسكو منذ ستينيات القرن الماضي ، وتعرف السياسة الثقافية بشكل عام علي أنها الإجراءات الحكومية والقوانين والبرامج التي تنظم وتحمي وتشجع وتدعم الأنشطة المتعلقة بالفنون والقطاعات الإبداعية ، مثل الرسم والنحت والموسيقى والأدب وصناعة الأفلام والمسرح وغيرها من الفنون ، وحماية وتطوير اللغات والتراث والتعدد الثقافي ، وما ينتجه هذا التنوع من ثقافات متباينة واسلوب حياة متغير ومتجدد . كما تعرف منظمة اليونسكو الثقافة علي أنها جميع السمات الروحية والفكرية والمادية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة إجتماعية بعينها وتشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة ، كما تشمل الحقوق الأساسية للانسان ومنظومة القيم والتقاليد والعادات ، وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الانسان في مادته رقم 27 )) علي أن :"لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية ، وفى الاستمتاع بالفنون ، والإسهام في التقدم العلمي وفى الفوائد التي تنجم عنه.كما أن لكل شخص حق في حماية المصالح المعنوية والمادية المترتبة على أي إنتاج علمي أو أدبي أو فني من صنعه."

وفي واقع اليوم أصبحت القضايا الثقافية والاقتصادية والاجتماعية متداخلة بل أشبه بالحزمة الواحدة حيث من الصعب حدوث تنمية إقتصادية وإجتماعية في أي مجتمع دون حدوث تنمية ثقاقية لمؤسسات وأفراد المجتمع ، وكلما إرتفع الوعي بأهمية الثقافة وتذوق الفنون وإنتاجها وسط مجتمع ما كلما كان ذلك مؤشرا إيجابيا علي تقدم وجودة الحياة في ذلك المجتمع .

 وفي الواقع السوداني المأزوم ، يعاني النشاط الثقافي علي تنوع وتعدد مجالاته من الشلل التام ، رغما عن وجود وزارة للثقافة تدير عددا من المجالس الثقافية المتخصصة ، والسبب الذاتي المباشر في هذا الجمود هو غياب سياسة ثقافية تقوم علي الشراكة بين الدولة والمجتمع  تدعم وتشجع الابداع السوداني في كل المجالات الثقافية وتجعله متاحا لكل السودانيين  ، إضافة الي أن الأجندة الثقافية علي أهميتها وحاجة بلادنا الماسة لها ، الإ أنها لاتجد الاهتمام والدعم الذي تستحق من صانع القرار الحكومي ، ويظهر ذلك جليا في ضعف ميزانية الدولة المخصصة لوزارة الثقافة و مؤسساتها علي المستويين الاتحادي والولائي ، ومع توارث سياسة الاهمال الرسمي والمجتمعي و غياب الدعم للأجندة الثقافية تداعي ماتبقي من مبان ، حيث أصبحت المسارح السودانية علي قلتها دورا مهجورة ، وتحولت دور السينما الي أطلال وخرابات يسكنها البوم والغربان ، وأندثرت صناعة السينما باندثار مؤسسة الدولة للسينما إلا من مبادرات شابة تكافح لاعادة الضوء مرة اخري علي شاشة السينما السودانية بعد عقود من الظلام ، يكافح هؤلاء الشباب لاعادة الروح لصناعة السينما السودانية في مبادرات منتجة بقدرات ذاتية وطموح لا يحده حدود ، وإن كان ينقص تلك المبادرات المخلصة الدعم المادي الرسمي والمجتمعي ذلك أن صناعة السينما صناعة باهظة التكاليف ، ولا تستطيع جيوب الأفراد مهما كانت سخية تحمل تكلفة النهوض بهذه الصناعة المعقدة التي تحوي في داخلها فنونا عديدة ، و ما يعتري صناعة السينما من تحديات تواجهه الفنون الشعبية التي يذخر بها وطننا المتنوع ، والتي إن لم تجد التطوير والرعاية وفقا لسياسات محكمة ودعم رشيد ، فستضمحل في مواجهة طوفان العولمة الجارف بثقافته كل الحدود والفضاءات. كما تدهورت في بلادنا صناعة الكتاب وتأثرت سلبا بالأزمة الاقتصادية المزمنة ، واغلقت عدد من دور الطباعة والنشر العريقة أبوابها بسبب الخسائر المادية الناتجة من إرتفاع تكاليف صناعة الكتاب ، خاصة تكاليف الرسوم الحكومية المفروضة علي مدخلات هذه الصناعة كرسوم الضرائب والجمارك ، وقل عطاء المواهب المبدعة في كل المجالات الثقافية لعدم القدرة علي التفرغ للابداع بسبب الانشغال في البحث عن لقمة العيش وتوفير أساسيات الحياة في واقع إقتصادي خانق لايتيح التقاط الأنفاس ناهيك عن الابداع ، في الوقت الذي تستنفر فيه الدولة كل طاقاتها المادية لشراء السلاح وأدوات الحرب والقمع ، وتقلل - عمدا أو جهلا - من قيمة الثقافة التي تبني الانسان و السلام والاقتصاد والتنمية ، كما تراجع النشاط التشكيلي داخل السودان ، علي تميز الفن التشكيلي السوداني الزاخز بالمبدعين ، والذي يعد أحد نقاط القوة في الفنون السودانية. وإجمالا ، فقد تجمد تماما النشاط المؤسسي للثقافة في السودان علي تنوعه أو كاد إلا من مبادرات وإجتهادات فردية وبقدرات ذاتية من قبل ناشطين في المجال الثقافي .

هذا الواقع الثقافي الجامد يفرض ضرورة تبني الدولة لسياسة عامة للثقافة تهدف الي الاهتمام بتطوير النشاط المبدع في كل مجالات الثقافة السودانية دعما وتشجيعا ورعاية ليكون حق الانتاج الثقافي والتمتع بخدماته متاحا لكل السودانيين ومعبرا بكل حرية وعدالة وتقدير وإحترام عن تنوع وتعدد الثقافات السودانية و معززا لقيم الانتماء والهوية السودانية ، وعنصرا فاعلا من عناصر القوة الناعمة للدولة و المجتمع ، علي أن تفسر  السياسة الثقافية في خطط وأليات قابلة للتنفيذ والقياس لتحريك وتنشيط عصب الثقافة في الدولة والمجتمع ، دون إغفال لأهمية الإدماج التدريجي للثقافة في كل مجالات السياسة العامة ، باعتبار أن السياسة الثقافية تتكامل مع كثير من مجالات السياسة العامة كمجالات التربية والتعليم والبيئة والسياحة والتخطيط العمراني وسوق العمل وغيرها من المجالات ، ولانجاز عملية الإدماج الثقافي والتكامل بين وزارة الثقافة وكل مؤسسات الدولة بشكل فاعل لابد من هيكلة وزارة الثقافة بحيث تتيح لها الهيكلة الجديدة المرونة لتقوم بدورها المحوري في التنسيق والتكامل بين كل الوزارات والمؤسسات فيما يلي خدمة المحتوي الثقافي علي تعدد المجالات .كما لابد من دعم الاتجاه العالمي الذي يعامل مؤسسات الثقافة كمؤسسات عامة مستقلة عن الجهاز التنفيذي ، وخاضعة لسلطة البرلمان تشريعا ومتابعة. 

 هذا مع أهمية بناء شراكات بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني والفاعلين الثقافيين محليا وإقليميا ودوليا لدعم وتشجيع الإنتاج الثقافي السوداني -علي تنوعه - وتسويقه ودعم المبدعين السودانيين في كافة مجالات الثقافة و الفنون ،  إضافة للاهتمام بتأهيل الكادر البشري العامل في مجالات الثقافة ، وتوفير فرص للمبدعين الشباب لصقل مواهبهم بالتعليم والتدريب في الداخل والخارج ، وبناء القدرات للتنفيذيين خاصة في مجال الادارة الثقافية ،  إضافة لما يمكن أن يحدثه التكامل بين وزارات الثقافة والتربية والتعليم والتعليم العالي من نقلة نوعية في تطوير مناهج الفنون والمحتوي الثقافي بشكل عام في كل المناهج التعليمية بمستوياتها  المختلفة ،مما يثمر ثقافة و إبداعا وحبا للفنون في الاجيال الناشئة .

 كما لابد أن تركز السياسة الثقافية للدولة علي قضية التراث الحضاري المادي وغير المادي ، وضمان حمايته من كافة المهددات وإحترامه علي تنوعه كتراث يعزز قيمة الانتماء والهوية والسلام المجتمعي ، كما يمثل ذاكرة للحضارات السودانية الضاربة في عمق التاريخ  ، إضافة لما يمثله هذا الثراث الثقافي من قيمة إقتصادية من خلال عائدات السياحة وإنعاش سوق العمل.

 أيضا من أهم المطلوبات لاعادة الحياة للثقافة السودانية هو زيادة الميزانية المخصصة لوزارة الثقافة ومؤسساتها والاهتمام بالعمل الثقافي خاصة في الولايات والأطراف ، وذلك لان من حق جميع المواطنين في كل بقعة من أرض الوطن المشاركة و التمتع بالخدمات الثقافية الممولة من الخزانة العامة للدولة ، كما لا يمكن فصل قضايا التنمية والانتاج في الريف عن قضايا الثقافة وإشباع إحتياجات إنسان الريف من الثقافة وتفاعله معها منتجا لها ومستهلكا .

ومن الإجراءات الضرورية في السياسة الثقافية مراجعة كل القوانين والتشريعات واللوائح الخاصة بالعمل الثقافي في السودان مثل قانون الملكية الفكرية وقانون الصحافة وغيرها ، كما لابد من مراجعة كل القوانين التي تؤثر في صناعة الثقافة كقوانين الجمارك والضرائب ، ومنح إعفاءات ضريبية وجمركية لمدخلات صناعة الثقافة- كصناعة الكتاب مثلا - ورقيا كان أم الكترونيا- ، تشجيعا للنشاط الثقافي . كما لابد إن تنص السياسة الثقافية علي حق المبدعين في الأجر العادل والمعاش الذي يضمن لهم ولأسرهم الحياة الكريمة.

 هذا وقد رفد التقدم التكنولوجي المجال الثقافي بابتكارات جبارة إنعكست إيجابا علي تطوير السياسة الثقافية وأدواتها حماية للتراث الثقافي وتنميته خدمة لأجندة الثقافة كمكون من مكونات التنمية الشاملة . بل وساهم التقدم التكنولوجي في نمو وازدهار    الاقتصاد الابداعي من خلال تطوير فنون العمارة والديكور والبرمجيات والاذاعة والتلفزيون والتصوير والرسم والموسيقي وصناعة السينما والأزياء وغيرها من الفنون ، لهذا لابد أن تلتزم السياسة الثقافية في السودان بضرورة الاهتمام باستيراد التكنولوجيا المتقدمة التي تخدم المجال الثقافي وتوطين صناعتها وعلومها في السودان خدمة لأجندة الثقافة.  

ولن تزدهر الثقافة بالسياسة الثقافية المحكمة وتتفيذ خططها أو بالدعم المادي والمعنوي فقط ، بل يجب أن تحمي الدولة الحريات وحقوق الإنسان لكل المجتمع حتي تزدهر الثقافة ، فالثقافة إبنة الهواء الطلق .

إن عالم اليوم يمضي بسرعة الضوء في مجال تطوير وتكامل و إدماج السياسة الثقافية في السياسة العامة للدولة علي إختلاف مجالاتها ، وتشارك المسؤوليات في تنفيذها بين الدولة والمجتمع ، وذلك نابع من أهمية الثقافة كأحد المحركات الأساسية لبلوغ أهداف التنمية المستدامة ، كما توفر السياسة الثقافية - إن وجدت الإدارة الثقافية الرشيدة و التنفيذ المتقن ومناخ الحريات وإحترام حقوق الانسان  - الحماية والازدهار للثقافات المحلية ، وهي بذلك توازن بين التنوع والخصوصية المحلية والقيم العالمية في أن واحد .

 ماسبق خطوط عريضة لأفكار حول السياسة الثقافية في السودان ، تحتاج الي مزيد من التفصيل والإثراء ، كما تحتاج قضايا الثقافة بشكل عام الي إهتمام أكبر من قبل الاكاديميين والمثقفين دراسة لمشاكلها وإنتاجا للحلول. 






































الجمعة، 8 أبريل 2022

الرياضة في السودان : تحديات الحاضر وأفاق المستقبل


   " للرياضة القدرة على تغيير العالم، فهي تستطيع توحيد البشر بطريقة يعجز عنها أي شيء آخر "

                                                  نيلسون مانديلا 


يعرف معجم كامبرديج الرياضة علي أنها لعبة أو منافسة أو نشاط يحتاج إلى جهد بدني ومهارة يتم القيام بها وفقًا لقواعد ، وذلك للاستمتاع و/أو كوظيفة. 

والرياضة في عالم اليوم أصبحت للجميع ، فهي أسلوب حياة يعزز الصحة البدنية والنفسية للبشر ويطور القدرات التعليمية والفاعلية الاجتماعية ، و يبني منظومة القيم في الشخصية الرياضيه علي أسس الاحترام والصداقة والتميز ، كما تطور الرياضة من مهارات العمل الجماعي والتعاون وتعزز من روح الانضباط وإحترام القواعد والتسامح واللعب النظيف.

والرياضة كنشاط تنافسي رسمي أو أسلوب حياة في المجتمع تحتاج الي إستراتيجية علمية شاملة تتبناها الدولة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني وكل الفاعلين في المجتمع لتحقيق الأهداف المرجوة من هذا القطاع الحيوي الذي أصبح جزءاً من القوة الناعمة للدول يعكس صورتها ومدي تحضرها و قيمها وثقافتها بين الأمم. 

وحال الرياضة في السودان كحال كثير من القطاعات المهمة المهملة من الدولة ومؤسسات  المجتمع ، حيث تعشعش فيه العشوائية والارتجال بديلا لحسن الادارة والتخطيط الاستراتيجي ، إضافة الي ضعف البنية التحتية للمرافق والمنشأت الرياضية ، وعدم مواكبة وتوافق التشريعات المحلية مع التشريعات الدولية الصادرة من المنظمات الاقليمية والدولية الرياضية ، هذا مع ضعف التمويل الحكومي و المجتمعي المخصص لهذا القطاع ، وإعتماد الاندية الرياضية في تسيير نشاطها علي جيوب الأفراد المحبين للنشاط من الرياضيين والذين مهما إمتلكوا من قدرات مالية فإنها تظل عاجزة عن النهوض بهذا القطاع الذي يتطلب إستثمارات ضخمة ووقتا حتي يصبح القطاع الرياضي قادرا علي تمويل نفسه بنفسه وتحقيق الفوائد المرجوة منه ، كما تعاني الرياضة السودانية أيضا من ضعف تدريب الكادر الوطني الناشط في هذا القطاع الحيوي علي تعدد محاوره الادارية والفنية. هذه التحديات تفرض تحركا عاجلا من كل المؤسسات الرسمية والمجتمعية لتطوير إستراتيجية علمية وواقعية وشاملة للنهوض بالرياضة في السودان .

وفي هذا الاطار لابد للدولة ممثلة في وزارة الشباب والرياضة من أن تبادر في طرح إستراتيجية شاملة لتطوير الرياضة السودانية بالتنسيق مع اللجنة الاولمبية والاتحادات الرياضية والأندية والقطاع الخاص والمجتمع المدني والرياضيين وبمشاركة كل القطاعات المتداخلة مع قطاع الرياضة مثل المؤسسات الطبية خاصة مايلي الطب الرياضي وكليات التربية الرياضية ، وبشكل عام وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي و وزارة العدل و وزارةالاعلام و وزارة الصناعة وزارة المالية وكل المؤسسات ذات الصلة .

 ولابد أن تكون الاستراتيجية الرياضية شاملة لكل مجالات ومحاور النشاط الرياضي ، بداية من تطوير التشريعات الرياضية القانونية حتي تتوافق مع قوانين ولوائح المنظمات الرياضية الدولية والقارية والإقليمية الي تطوير وتدريب الكوادر البشرية العاملة في المجال الرياضي ، وتحديث أنظمة الإدارة الرياضية لتواكب الطفرات التي أحدثتها ثورة التكنولوجيا في عالم الادارة الرياضية وفي المجال الرياضي بشكل عام ، مع الالتزام الصارم بمعايير الجودة الشاملة في كل ما له علاقة بقطاع الرياضة ٠ 

كما لابد أن تهتم الاستراتيجية الرياضية بتطوير البنية الاساسية للنشاط الرياضي والتوسع في بناء الملاعب الحديثة والمرافق والمنشأت الرياضية ، وأن لا يكون الاعتماد  في ذلك على الدولة فقط بل يمكن للقطاع الخاص أن يلعب دورا مقدرا في هذا الجانب ، وذلك من خلال إقرار قانون خاص بالاستثمار الرياضي يخاطب مخاطر الاستثمار المحتملة في هذا القطاع الحيوي ويشجع علي جذب رؤوس الاموال للاستثمار في الرياضة علي مستوي البنية الاساسيه كانشاء الاندية الخاصة والملاعب ومستشفيات الطب الرياضي ومصانع الأدوات والمعدات الرياضية ، وتشجيع الشركات العالمية المتخصصة في صناعة الأدوات والمعدات الرياضية علي إعتماد وكلاء و فتح فروع وخطوط إنتاج لمصانعها داخل السودان . أيضا  لابد من فتح الباب أمام أندية اللعبة الواحدة لمزيد من التخصصية ، كما لابد من أن تجد قضايا الإعلام الرياضي بكل أنواعه حيزا في الاستراتيجية الشاملة لتطوير الرياضة في السودان ، وذلك من خلال تذليل كل العقبات التي تمنع النهوض بقطاع الاعلام الرياضي المشاهد والمسموع والمقروء ، مع عدم إغفال تحسين أجور العاملين في مجال الإعلام الرياضي وتطوير قدراتهم من خلال التدريب المستمر داخليا وخارجيا ، وإقرار التشريعات القانونية الملزمة لذلك. 

 و لابد أن تركز الاستراتيجية الرياضية الشاملة في خططها علي صناعة وإنتاج أبطال رياضيين إعتمادا علي المدارس السنية من فئات البراعم والناشئين خاصة ما يلي الإعداد المبكر للموهوبين منهم للتنافس الاقليمي والقاري والدولي، واكتشاف ورعاية الموهوبين مسؤولية كل المجتمع ، كما أن إكتشاف المواهب الرياضية يتطلب منافسات منتظمة علي مستوي المدارس والجامعات والمؤسسات ، كما لابد من التوسع في إنشاء المدارس السنية و الاكاديميات الرياضية المتخصصة،  وذلك لالتقاط وإعداد الموهوبين منذ الصغر ورعايتهم وفقا لأحدث البرامج التدريبية والتنافسية ،  مما سيمهد الطريق أمامهم في المستقبل لحصد البطولات الدولية باسم الوطن . 

ايضا لابد للإستراتيجية الرياضية الشاملة أن تقر وتشجع الانفتاح علي تجارب الدول الرائدة في كل لعبة تنافسية ، وإستقدام خبراء منها للاستفادة منهم في تطوير اللعبة المعنية في السودان ، ايضا لابد من العمل علي إستقطاب كافة أشكال الدعم الخارجي من المؤسسات الدولية ، و تفعيل الاتفاقيات الثنائية مع الدول الصديقة ، وتوجيه كل ذلك في إتجاه تطوير البنية التحتية الأساسية والتنمية البشرية للكوادر الرياضية السودانية ( الادارية والفنية) كما ونوعا . 

إن من نقاط القوة التي تخدم أجندة الرياضة في السودان هو توفر المواهب والخامات الرياضية خاصة فيما يلي الألعاب الفردية والتي ينقصها فقط الاكتشاف والرعاية منذ الصغر لتشب علي أسس علمية وتنافسية ، ويمكن للسودان أن يحقق بطولات قارية ودولية في الالعاب الفردية إن وجدت إهتماما مثلما تجده بعض الالعاب الجماعية.

أيضا من نقاط القوة شغف مجتمعنا السوداني بالرياضة علي إختلاف ضروبها ومتابعته أخبارها ، بل إن الفعاليات الرياضية خاصة كرة القدم تستحوذ علي إهتمام قطاع عريض من مجتمعنا الذي يتدافع بالالاف ويقتطع جزءا من دخله المادي لمتابعة النشاط الرياضي المحلي من داخل الاستادات والمرافق الرياضية ، بل ويتابع الرياضة العالمية من خلال الاشتراك في القنوات الحصرية مدفوعة القيمة ، هذا الشغف لا نظير له مقارنة بالنشاطات المجتمعية الأخري مثل الندوات السياسية أو الأدبية والتي لايتعدي الحضور الجماهيري فيها علي أحسن الفروض المئات في السياق الطبيعي ، هذا الشغف المجتمعي رصيد يمكن تطويره ليكون أكثر فاعلية و إيجابية لخدمة أجندة الرياضة  في السودان ، خاصة فيما يلي التسويق الرياضي وتحويل الأندية الرياضية الي شركات مساهمة عامة ، وكسوق واعد بالطلب يمكن أن يكون عامل جذب وتحفيز للقطاع الخاص المحلي والدولي للإستثمار في المجال الرياضي  بالسودان. 

إن ممارسة الجميع للرياضة في عالم اليوم لم تعد أمرا ثانويا بل أصبحت ضرورة صحية وإقتصادية وإجتماعية لهذا لابد من التوسع الأفقي والراسي في المنشأت والمرافق الرياضية علي مستوي السودان كله ، وأن لاينحصر النشاط الرياضي فقط في المدن بل يتعداه للريف السوداني الزاخر بالامكانيات البشرية والاقتصادية التي يمكن أن ترفد مسار الرياضة في السودان بكل ماهو مفيد .

إن التخطيط الاستراتيجي السليم والادارة الجيدة والعمل الجماعي المخلص لمؤسسات الدولة والمجتمع فيما يلي الأجندة الرياضية في السودان ، يمكن أن يضع وطننا في الصدارة علي المستوي التنافسي إقليميا وقاريا و من ثم دوليا  ، وذلك لان السودان زاخر بالمواهب في كل ضروب الرياضة ، وينقص هذه المواهب الاكتشاف والرعاية والاعداد المبكر منذ الصغر وفقا لاستراتيجية علمية متفق حولها تديرها الدولة ويدعمها المجتمع .




























الجمعة، 1 أبريل 2022

نُزهة في أشعار صلاح أحمد : يازكيَّ الشعر والشعر شعور

 


          

               


   


صلاح أحمد إبراهيم نجم خالد في سماء الشعر السوداني ، ومن رواد الشعر الحديث في السودان ، وأحد مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء ،وهي تيار ثقافي تأسس في ستينيات القرن الماضي في جامعة الخرطوم ، والتي تخرج فيها شاعرنا صلاح أحمد في كلية الأداب. و يعلي هذا التيار الادبي من قيمة الهوية السودانية كقومية تمتزج فيها العروبة بالافريقية ، والغابة ترمز للبعد الأفريقي، بينما الصحراء ترمز للبعد العربي ، وقد ولد صلاح أحمد في مدينة أم درمان في ديسمبر من العام 1933.

 ويمتاز صلاح أحمد بطاقات شعرية جبارة وخيال خصب ولغة مدهشة غذتها ثقافته العالية وتجربتة الإنسانية الثرة ، كتب أجمل قصائده في الرومانسية ، متفردا فيها باستخدامه للميثولوجيا الاغريقية ، كما أجاد في توظيف التراث السوداني ورموزه بأصوله الأفروعربية في عدد من قصائده الجياد ، كتب صلاح أحمد الشعر باللغة الفصحي وبالعامية السودانية ، وأبدع بالكتابة بهما شعرا صادقا نابعا من الشعور ، لهذا وجد صدي طيبا وقبولا في نفوس متذوقي الشعر . أنتج صلاح أحمد أشعارا كثيرة ، خرج بعضها في دواوين شعرية منها : غابة الأبنوس ، وغضبة الهبباي ، ونحن والردي ، ومحاكمة الشاعر للسلطان الجائر ، ويا وطن ، كما أشترك مع صديقه الأديب (علي المك) في إنتاج مجموعة قصصية بعنوان ( البرجوازية الصغيرة) ، وشاركه أيضا في ترجمة كتاب (الأرض الأثمة) لمؤلفه باتريك فان رنزبيرج.

وفي نزهة بين أشعارصلاح أحمد ، أقطف لكم من رائعته (نحن والردي) :


نتركُ الدنيا وفي ذاكرةِ الدنيا لنا ذكرٌ وذِكرًى

من فِعالٍ وخُلُقْ

ولنا إرثٌ من الحكمةِ والحلمِ وحبِّ الكادحين

وولاءٌ، حينما يكذبُ أهليه الأمين

ولنا في خدمة الشعب عرق.


أمسِ قد كنا سُقاةَ القومِ بالكأس المرير

وغدًا يحملنا أبناؤُنا كي نستقي

فالذي تُخلَى له مَضْيَفَةُ الحي سيُدعَى للرحيل

حين يبدو قادمٌ في الأفق

وكلا القائمِ والقادمِ في دفترِها ابنُ سبيل.


أما في الرومانسية ، فكالعهد بشعر صلاح ، فقد أبدع وأجاد ، وقصيدته (قصة من أم درمان) تقف شاهدا علي ذلك ، خاصة ماجاء منها في وصف العيون ، وأقتطع لكم منها: 


عيناك وأخضر المكان

وتسمرت عيناي في عينيك

ماعاد المكان أو الزمان

عيناك بسْ

ومسكت قوس كمانتي

عيناك إذ تتألقان

عيناك من عسل المفاتن جرتان

عيناك من سور المحاسن آيتان

عيناك مثل صبيتين

عيناك أروع ماستين

هذا قليل

عيناك أصدق كلمتين

عيناك أسعد لحظتين

هذا أقل

عيناك أنضر روضتين

عيناك أجمل واحتين

ما قلت شئ

عيناك أطهر بركتين من البراءه

نزل الضياء ليستحم بها

فألقى عند ضفتها رداءه

الفتنة العسلية السمراء

والعسل المصفى والهناء

وهناك أغرق نفسه

عجز الخيال

عيناك فوق تخيلي

فوق إنطلاق يراعتي

فوق إنفعال براعتي

عيناك فوق تأملي


ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت

من أنت؟ ما أسمك يا جميل؟

وكنت من أي الكواكب قد أتيت

وقد أختفيت 

مازلت تملأ خاطري مثل الأريج

كصدى أهازيج الرعاة تلمه خضر المروج

كبقية الحلم الذي ينداح عن صبح بهيج

ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت

ومضت ليال كالشهور فما ظهرت ولا أتيت

وأنا أسائل عنك في الليل القمر

وأنا أفتش في ابتسامات الرضا لك عن أثر

في كل ركن سعادة لك عن أثر

في كل نجم خافق

في كل عطر عابق

في كل نور دافق

لك عن أثر .


ولصلاح قصائد  رومانسية أخري لاتقل جمالا عن قصيدته( قصة من أم درمان ) ومنها قصيدة (مريا) و التي تفرد فيها صلاح باستخدام الميثولوجيا الأغريقية ، ومنها إخترت لكم :



ليت لي أزميل " فدياس " وروحا عبقرية

وأمامي تل مرمر ,

لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثالا مكبر ,

وجعلت الشعر كالشلال : بعض يلزم الكتف وبعض يتبعثر

وعلى الأهداب ليلا يتعثر

وعلى الأجفان لغزا لايفسر

وعلى الخدين نورا يتكسر

وعلى الأسنان سكر

وفما ـ كالأسد الجوعان ـ زمجر

يرسل الهمس به لحنا معطر

وينادي شفة عطشى وأخرى تتحسر

وعلى الصدر نوافير جحيم تتفجر

وحزاما في مضيق , كلما قلت قصير هو , كان الخصر أصغر

يامريا :

ليت لي أزميل " فيدياس " وروحا عبقرية

كنت أبدعتك ياربة حسني بيدي

يامريا :

ليتني في قمة " الأولمب " جالس

وحوالي العرائس

وأنا في ذروة الإلهام بين الملهمات

أحتسي خمرة " باخوس " النقيه

فإذا ماسرت النشوة في

أتداعى , وأنادي : يابنات

نقروا القيثار في رفق وهاتوا الأغنيات .


وقد ذاعت هذه القصيدة أكثر بعدما غناها الفنان الكبير الراحل (حمد الريح)، كما غني الموسيقار الراحل محمد وردي لصلاح أحمد قصيدة (الطير المهاجر) وهي قصيدة باللغة العامية السودانية ، وهي من أجمل أشعار صلاح الغنائية وزادها حسنا لحن وصوت فنان أفريقيا الأول ، وغني له أيضا الفنان الكبير صلاح بن البادية قصيدة (ياعزه ولدك فيهو سر ) ، كما غني له الهرم الغنائي عثمان حسين قصيدة (العوده الي اليرموك )، و أبدعت فرقة عقد الجلاد الغنائية في إختيار وغناء قصيدته (شين ودشن) ، وهي أيضا بالعامية السودانية ومنها هذه الأبيات :

البسمع فيهم يا أبو مروه

يبادر ليك من غير تأخير

دا اخو الواقفة يعشى الضيف

الحافظ ديمه حقوق الغير

الهدمه مترب وقلبه نظيف.


وإجادة صلاح أحمد لأنواع عديدة من الشعر يعكس موهبته المتفردة وطاقاته  الشعرية المتعددة ، وثقافته العالية ، وإمتلاكه ناصية اللغة العربية وأدابها ، مما سهل عليه ترجمة شعوره شعرا باللون الشعري الذي يتناسب مع الموضوع الذي يقرض فيه .

وأخترت لكم من قصيدة (حنين)  هذه الرباعيات:


يا طير  إن مشيت سلم على حبانى

جيب خبر الوطن يمكن قليبو طرانى

جيب نسام زلالو المنو مره روانى

جيب لمحات جمالو الاصلى مو برانى


عرج على جبال كررى وتوخى يمينك

وفى اطراف مقابر البكرى أحنى جبينك

حلق فوق معالم البقعة متع عينك

وسلم لى على الدايما بسأل وينك


أدخل ليهو بالباب الصغير دامع

وفى حوش التراب أسجد تحية جامع

سلم فى خشوع قول ليهو جيتك راجع

أقلع بين ايديهو الفى ضلوعك ساجع


 ولم يكتفي صلاح أحمد ببراعته في الشعر العربي بأنواعه المتعددة  والمتعارف عليها في السودان والإقليم ، بل كتب الشعر علي نسق( الهايكو الياباني ) الذي يعتمد في التعبير ، علي عمق و كثافة المعني بمفردات قليلة ،.وهو نوع من الشعر لا قافية له ولا وزن ، حيث تتألف أشعار الهايكو الياباني من بيت واحد فقط ، مكون من سبعة عشر مقطعا ، وقد تنقص الي أربعة عشر أو تزيد الي واحد وثلاثين مقطعا ، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر .

وأجاد صلاح أحمد في نظم قصائد علي نسق( الهايكو الياباني)، منها :


النيل وخيرات الأرض هنالك 

ومع ذلك... 

ومع ذلك...


 وقد سخر  صلاح أحمد ملكاته الشعرية في التعبير عن مواقفه السياسية ، وله في هذا الباب ارث كبير ملأ الدنيا وشغل الناس ، وكتب عن شعبنا بعد ثورة اكتوبر :


أعرفهم: الضامرين كالسياط

 الناشفين من شقا

اللازمين حدهم، الوعرين مرتقى

أعرفهم كأهل بدر شدة، ونجدة، وطلعة، وخلقا

أعرفهم ان غضبوا مثل انفلاق الذرة

أو وثبوا فكهوي الصخرة

أو فتكوا فأسأل الصاعقة

أو زأروا فالحزم ملء الزأرة

الجن لا يحوشهم من شدة التعنت

تسوقهم إلى الردى زغرودة الفتوة

أو هاتف – ولم يسم – يا أبا المروءة

فيأكلون الجمر لا يلوون بالدنية.


ودبج الاشعار في المناضل الأفريقي باتريس لومومبا ، منها هذا المقطع : 


معصوب العينين معرى الصدر تدفره رجل السجان

 كفاه وراء الظرف التفّ عليهما القيد 

 كما يلتف على السمك السرطان

وتقدم يمشي معتداً تحسبه يخطب في آلاف

وتحسبه سلطان

في موكب نصر يخطر أبهة كأوز النيل

حواليه العبدان

مرفوع الأنف يقبل سيف الحق

يصلصل في زرد الإيمان


وبحكم إقامة صلاح أحمد خارج أرض الوطن لسنوات طويلة ، فقد تناول في شعره إنفعالات الغربة والحنين الي الوطن في كثير من روائعه ، ومن ذلك الإرث ماخطه عن إنفعالات الغربة في بلاد مقياس الناس فيها بالألوان ، وهي دعوة في ظني لاتقتصر علي الخارج فقط بل هي دعوة للتفكر في حال واقعنا المحلي الذي مازال يمور و يضطرب عصبية ، خاصة من أولئك الذين يدعون النقاء العرقي من السودانيين ، ويميزون علي أساسه داخل السودان ، و من تغرب يعرف أننا كسودانيين علي إختلاف درجات ألواننا سود في نظر البيض ، وآن لمن يدعون النقاء العرقي أن يتطهروا من هذه الجاهلية ، ويتركوا الشقاق بسبب التعدد العرقي ، وأن يلتفوا حول الهوية السودانية ببعديها الأفريقي والعربي ، و التي عبرت عنها شعرا مدرسة الغابة والصحراء ، وكان صلاح أحمد أحد روادها ، ومن الملاحظات أننا كسودانيين نعيش كمجتمع موحد و متجانس علي تعددنا خارج الأوطان أكثر مما نتألف في داخل الوطن ، وقصيدة (إنفعالات في الغربة) تعكس قضية التمييز  في بعض المجتمعات علي أساس اللون ، منها أقتطع لكم :


هل يوماً ذقت الجوع مع الغربة؟


والنوم على الأرض الرطبه


الأرض العارية الصلبة


تتوسد ثنى الساعد في البرد الملعون


أني طرفت تثير شكوك عيون


تتسمّع همس القوم، ترى غمز النسوان


وبحدّ بنان يتغوّر جرحك في القلب المطعون


تتحمل لون إهاب نابٍ كالسُّبّه


تتلوى في جنبيك أحاسيسٌ الإنسان


تصيح بقلب مختنق غصان:


وآ ذلّ الاسود في الغربة


في بلد مقياس الناس به الألوان!


 ماسبق شذرات من شعر صلاح أحمد ، أما تراثه الفكري والأدبي بشكل عام  فغزير ومتنوع ، حيث كتب وترجم مئات المقالات السياسية والأدبية و عشرات القصص القصيرة ، ونشرت مساهماته تلك في عدد من الصحف السودانية والعربية في ذاك الوقت ، وأمثال صلاح أحمد من الأدباء المجيدين قلة يجب أن تفاخر بهم الأمم ، وتهتم بتوثيق تراثهم الأدبي الرفيع ، لان ماتركوه من إرث أدبي رفيع يستحق ذلك ، توفي الشاعر صلاح احمد إبراهيم في مايو من العام  1993 :


رُبَّ شمسٍ غرُبت والبدرُ عنها يُخبر

وزهورٍ قد تلاشت وهي في العطر تعيش


وأختم نزهتي بين أشعار صلاح أحمد بأبيات من رائعته (نحن والردي)  : 


في غدٍ يعرفُ عنا القادمون

أيَّ حب قد حملناه لهم

في غدٍ يحسبُ فيهم حاسبون

كم أيادٍ أسلفت منا لهم

في غدٍ يحكون عن أنَّاتنا

وعن الآلام في أبياتنا

وعن الجرح الذي غنى لهم

كل جرحٍ في حنايانا يهون

 حين يغدو مُلهما يُوحي لهم

جرحُنا دامٍ ونحن الصامتون 

حزننا جمٌّ ونحن الصابرون

فابطشي ما شئتِ فينا يا مَنون

كم فتًى في مكة يشبه حمزة؟



https://shihabeldinabdelrazigabdalla.blogspot.com/





































الجمعة، 25 مارس 2022

نحو سياسة إجتماعية متكاملة تمثل قيم الثورة السودانية

  


يتفق الأكاديميون بشكل عام ، علي أن السياسة الاجتماعية هي جزء من السياسة العامة التي تصدرها الدولة أو من يمثلها وتخاطب فيها القضايا الاجتماعية كالرعاية الصحية والتعليم والسكن وسوق العمل والرفاهية ، كما تعالج إستجابة الحكومة والمجتمع للتحديات الاقتصادية والاجتماعية كقضايا الفقر والهجرة والنزوح ، وتحلل السياسة الاجتماعية الأدوار المختلفة التي يقوم بها شركاء المجتمع من حكومة ومنظمات غير ربحية ومجتمع محلي وأسرة في تقديم الخدمات عبر دورة حياة الانسان من الطفولة الي الشيخوخة. وتهدف السياسة الاجتماعية بشكل عام  للحد من عدم المساواة في الحصول علي الخدمات والدعم بين الفئات الاجتماعية المستهدفة بحسب الحالة الاجتماعية والاقتصادية والنوع والعمر والعرق و غيرها من المحددات.

وقد رفعت الثورة السودانية شعارات الحرية والسلام والعدالة ، والعدالة بمفهومها الشامل تغطي وجوه عديدة ، كالعدالة الاجتماعية والعدالة القضائية والعدالة السياسية .

والسياسة الاجتماعية هي التعبير العملي لتطبيق شعار الثورة السودانية فيما يلي وجه العدالة الاجتماعية ، و التي لن تتحقق ما لم تتنزل سياسات وخطط وبرامج تضمن المساواة وحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص والخدمات ، إذ من المفترض أن تخاطب السياسة الاجتماعية بعد الثورة السودانية محاور عديدة منها مايتصل بمعالجة قضايا الفقر و المخاطر المرتبطة بدورة الحياة كالمرض والشيخوخة والإعاقة وغيرها ، ومنها مايتصل بمحور الاستثمار في البشر من خلال الاهتمام بقضايا التعليم والصحة وسوق العمل ؛ ومنها مايعالج قضايا التنمية الاجتماعية كالاهتمام بالتنمية في الريف وقضايا الأراضي والمياه وغيرها . فالسياسة الاجتماعية بعد الثورة السودانية يجب أن تخطط من أجل الجميع ولمصلحة كل المجتمع ، مع التركيز علي  الاستثمار في البشر كأغلي راسمال في المجتمع من خلال الاهتمام بقضايا التعليم والصحة والسكن وسوق العمل ، ذلك أنه كلما كانت السياسة الاجتماعية متكاملة كل ماتعزز  نمو المجتمع وإستقراره وتماسكه ، إذ من المفترض أن تلعب السياسة الاجتماعية في سودان مابعد الثورة دورا بارزا في توطيد النسيج الإجتماعي من خلال دعمها لقيم العدالة الاجتماعية وتعزيز المساواة في المجتمع ، بل والمساهمة في تخفيف الصدمات الاقتصادية في وقت الأزمات ، والتي لايخلو منها أي مجتمع إنساني. خاصة مع الاتجاه الاقتصادي الغالب محليا بضرورة التعامل مع المؤسسات المالية العالمية( صندوق النقد والبنك الدولي ) ومايترتب علي تنفيذ سياسات هذه المؤسسات من فجوات إقتصادية ، وتصاعد في وتيرة خصخصة الاقتصاد والخدمات قد تتلاشى علي إثره الطبقة الوسطى في المجتمع ، ويصبح المجتمع بين غني ومعدم ، لذلك أصبح من الضرورة تبني سياسة إجتماعية تحد من عدم المساواة في المجتمع السوداني ، وتلبي ضرورياته خاصة مع إرتفاع التكاليف المادية للاساسيات كالغذاء والرعاية الصحية والتعليم والسكن اللائق ، وأصبح الحصول علي هذه الضروريات خارح متناول الاغلبية من محدودي الدخل .

وعلي جماهير شعبنا الضغط في إتجاه تبني الدولة لسياسة إجتماعية عادلة تؤسس لمجتمع العدالة الاجتماعية ، ولضمان الالتزام طويل الامد بتنفيذ السياسة الاجتماعية المتفق حولها، لابد من تضمينها كحق من الحقوق الدستورية ، حتي لايصبح الالتزام بها وقفا علي حكومة بعينها أو خاضعا لتقلبات وأهواء السياسة.

 وعلي الرغم من أن الحكومات في العالم المتقدم  لم تعد هي الفاعل الوحيد في ميدان السياسة الاجتماعية بل أصبح لها شركاء كالقطاع الخاص والقطاع غير الربحي والمجتمعات المحلية وصولا للأسرة وحتي الافراد ، لكن الواقع في السودان مختلف تماما،  فمع ضعف إلتزام القطاع الخاص تجاه مسؤولياته المجتمعية ،  وجنوحه لمشاريع تحقق له الدعاية أكثر مما تلبي حاجة مجتمعنا ، و ضعف مؤسسات المجتمع المدني والتي لم يقوي عودها بعد كما ونوعا ، عليه تصبح إدارة السياسة الاجتماعية مسؤولية الدولة بشكل مباشر تخطيطا وتنفيذا وتقويما .

 وقد برهنت تجارب بعض الدول المتقدمة أن التركيز علي إزدياد معدلات النمو الاقتصادي ليس كافيا لردم الهوة وتحقيق رفاه المجتمع ؛ بل ربما ساهم في زيادة وتوسيع الفوارق الاقتصادية وزيادة حدة الفقر وإختلال المجتمع ، ما لم يكن مستندا على سياسة إجتماعية فاعلة تعبر عن إحتياجات الناس الحقيقة وتعمل على تلبيتها وتجسير فوارق المجتمع ، كما أن تحسن المؤشرات الاقتصادية ليس هدفا في حد ذاته ، بل الأثر الايجابي لهذا التحسن علي حياة الناس وتنمية المجتمع. 

والدعوة للعدالة الاجتماعية ليست مطلبا بشريا فقط بل هي أمر إلهي ، وفي كل الديانات السماوية من التشريعات مايعضد قيم العدالة الاجتماعية والتراحم بين الناس ماديا ومعنويا ،ويكفي علي سبيل المثال لا الحصر ، أن الركن الثالث في الإسلام هو فريضة الزكاة وماتحمله من قيم التكافل المادي في المجتمع ،كما دعا الاسلام الي رحمة الصغير وتوقير الكبير علي وجه العموم  ، وخص بالأجر العظيم والفوز بالجنة كافل اليتيم ، والبار بوالديه وذلك من أحب الأعمال الي الله ، ومن حقوق المسلم علي المسلم  زيارة المريض وإتباع الجنازة ، ومن سيرة صحابة النبي الكريم ،إيثار الانصار للمهاجرين، وقد مدحهم الله عز وجل في كتابه الكريم ، وأصبح صنيع الأنصار رضي الله عنهم قرأنا يتلي الي يوم الدين ، مثل لامع أخر في الإيثار والمواساة عن صحابة النبي الكريم من الأشعريين ، وقال النبي الكريم فيهم: ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم) .أما المساواة بين البشر فقد أقرها الإسلام فعلا وقولا ، فالرب وأحد ، وكلنا لأدم وأدم من تراب.  

وفي الثورة السودانية أمثلة كثيرة علي الايثار والتكافل ولعل أسطعها تجربة إعتصام القيادة العامة ، والتي توحد فيها السودانيون وتكافلوا فيما بينهم علي إختلاف اعراقهم ، وبرز في تلك التجربه شعار (لو عندك خت ، لوماعندك شيل) كمثال بارز علي روح التكاتف بين الثوار .

وإجمالا ، لايمكن تصور وجود حكم رشيد باركانه الثلاثة (الحرية والمساواة والعدل ) دون سياسة إجتماعية عادلة و متكاملة . وما من تجربة إنسانية في الحكم لها ذكر في الجانب المشرق من التاريخ البشري إلا و كانت العدالة الاجتماعية بمثابة الروح و القلب النابض لها .

إن قضية توزيع موارد الدولة توزيعا متوازنا له علاقة وثيقة بنجاح السياسات العامة ، وعلي رأسها السياسة الاجتماعية ، والتي يجب أن يكون الالتزام بها حقا دستوريا حتي لايتهرب الجهاز التنفيذي من الايفاء بها .

 وقد أبرزت حسابات منظمة العمل الدولية أن تكلفة بناء نظام فاعل للضمان الاجتماعي الأساسي يشمل خدمات التعليم الأساسي والرعاية الصحية للفقراء ودعم المعاشيين والمعوقين لايتجاوز نسبة ال ٢% فقط من الدخل القومي للدولة ، وكل ما أزدادت النسبة المخصصة في الدخل القومي لبند السياسة الاجتماعية كلما كانت أكثر شمولا و إكتمالا ( كما ونوعا) وإنعكس ذلك إيجابا علي إستقرار وتماسك و تنمية و رفاه الدولة والمجتمع .











































السبت، 19 مارس 2022

حول إدارة التعدد العرقي وبناء الهوية المشتركة في السودان


مابين حاضرنا وخطاب وداع السير روبرت هاو حاكم عام السودان  بُعيد الاستقلال ، و الذي أوضح فيه أن أكبر  تحدي يواجه شعوب السودان هو كيفية إدارة التعدد والتنوع الذي يذخر به السودان ، ليكون هذا التنوع  مصدر قوة لا مصدر نزاع ، تتمدد ستة عقود ونصف من الحكم الوطني فشلت جميعها في إدارة التعدد العرقي وما أنتجه من تباين في الدين و اللغة و اللون ، بل وفقدت الشعوب السودانية شعب جنوب السودان الذي أسس دولته منفصلا عن الدولة السودانية مابعد الاستقلال ، وقد جاء إنفصال الجنوب نتيجة لخطأ المعالجات التي تبنتها الدولة السودانية في معالجة مسألة التعدد العرقي في السودان ، ومايتطلبه إدارة هذا التعدد من حقوق دستورية و سياسات إقتصادية وإجتماعية وسياسية وثقافية ، ذلك أن الاختلاف والتعدد هو إرادة الله في خلقه ، ولا يشكل الاختلاف والتعدد في حد ذاته عيبا أو نقصا أو مانعا للتوافق حول قضايا الدولة الواحدة ، وبناء الهوية التي تشعر كل المجموعات العرقية بالانتماء إليها ، ولهذا فان الإدارة الجيدة لمسألة التعدد العرقي ، توجب الإعتراف أولا بحق الاختلاف والتنوع بكل مستوياته ، يعزز  ذلك الحق بسط الحريات السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية لكل المجموعات العرقية ، فالحرية ضرورة لاغني عنها حتي تطمئن كل المجموعات العرقية وتبادل الدولة حقوقها وأجبات ، مما يسهم في إزدهار التعايش السلمي ، و تعزير القواسم المشتركة للهوية الوطنية الجامعة التي  تقف علي قاعدة متماسكة و متنوعة من إنتماءات أولية كالقبيلة والدين واللون والثقافة  ؛ والانتماءات الأولية هي قدر الانسان التي يولد بها ، ولا يختارها ، لهذا فعدم الإنغلاق أو التقوقع في أجندة هذه الانتماءات الأولية ، والانفتاح علي المجموعات العرقية الأخري هو مايقود الي بناء القواسم المشتركة كضرورة لبناء الدولة الوطنية الموحدة بوجدانها الجمعي ومصالحها العليا وهويتها التي يتشاركها الجميع .

والسودان ليس هو البلد الوحيد الذي يذخر بتعدد في القبائل و اللغات والديانات والألوان والثقافات ، وقد نجحت دول مثل سويسرا وماليزيا وهولندا و جنوب إفريقيا والنمسا وكندا من جعل التعدد مصدر ثراء وقوة ، وقد عالجت هذه الدول مسألة التعدد العرقي من خلال إعتماد دساتير توافقية تضمن مشاركة و تمثيل وحقوق كل القوميات علي تعددها وتنوعها، ورسمت من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية مايضمن ذلك ، ولم تغفل عن معالجة مأزق الأقليات في مواجهة الأكثرية كأحد نقاط الضعف عند تطبيق الديمقراطية التقليدية في المجتمع المتعدد ، فاعطت حق الاعتراض والنقض المتبادل بين الأقلية والأغلبية في المجتمع المتعدد لمنع إحتكار القرار ، كما أعتمدت التمثيل النسبي  في الانتخابات وفي المؤسسات ، وقد ساهمت هذه المعالجات في تسهيل مشاركة الجميع مما إنعكس إيجابا علي تقوية تماسك المجتمع والدولة ككل ، كما منحت حق الادارة الذاتية لكل أقليم في إطار مفهوم الدولة الواحدة والحكومة الواسعة القائمة علي تحالف جميع مكونات الدولة أكثرية وأقلية، ونجحت هذه الدول من خلال هذه الوصفة في خلق الانتماء ( للأمة الواحدة) علي قاعدة متعددة عرقيا ، وقد ذكر عالم السياسة الهولندي الاصل الأمريكي الجنسية أرنت ليبهارت في كتابه (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد )  والذي شرح فيه نظريته حول الديمقراطية التوافقية كعلاج لمشكلة المجتمعات المتعددة المنقسمة عرقيا ولغويا ودينيا وثقافيا أن الديمقراطية التوافقية وصفة لبناء الثقة في المجتمعات المنقسمة ، و يتطلب نجاح تطبيقها تعاونا من كل مكونات المجتمع المتعدد ، وإعتدالا ووسطية ومرونة من الجميع حتي يكون النظام التوافقي فاعلا ومنتجا وقابلا للاستمرارية والتطوير ،  لان تمترس أي مكون عرقي أو ثقافي  بمواقفه دون مراعاة لمصالح الأخرين ، قد يشل عملية إتخاذ القرار في الدولة والتي تتطلب تنازلات من الجميع ، كما أن التركيز علي تعظيم المكاسب والإمتيازات لإقليم أو مجموعة عرقية محددة في ظل الديمقراطية التوافقية قد يفجر  نزعات إستقلالية تكون مدخلا لتفكك الدولة .

 وفي واقعنا السوداني فقد أدي الفشل في صناعة دستور توافقي يعالج مسألة التعدد العرقي مع غياب القوانين الملزمة التي تضمن الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لشعوب السودان المختلفة علي تنوعها و تعددها الي نزوع بعض النخب التي تنتمي الي بعض المجموعات العرقية التي تشعر بالتهميش الي توظيف هذا الشعور سياسيا كرد فعل علي إحتكار مجموعات ثقافية وعرقية أخري للمجال العام سياسيا وثقافيا ، وقد قاد ذلك سابقا في التجربة السودانية لانفصال شعب جنوب السودان ، وإذا إستمرت ذات المعالجات الخاطئة للتعامل مع قضية التعدد العرقي ، فالنتائج بلاشك ستكون مزيدا من التقسيم ، وسيتشظي السودان الي دويلات علي أسس عرقية وثقافية.  

إن الحل للصراع العرقي في السودان ، يكون من خلال التراضي بين كل شعوب السودان علي دستور توافقي وقوانين ملزمة تحترم وتحمي خصوصية كل شعب وثقافته ، وتضمن الحريات و الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل شعوب السودان في إطار مفهوم الدولة الوطنية الواحدة التي تحقق مصالح الجميع ، وأن يكون التوافق الدستوري علي هدي الديمقراطية التوافقية  خطوة اولي في طريق إندماج  كل مكونات المجتمع تحت رأية الإنتماء للدولة والهوية الوطنية السودانية كحاضنة للجميع ، ولتعزيز هذا الإتجاه لابد من أن تعمل الدولة علي دعم وتطوير أدوات المجتمع المدني كالأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومنظمات العمل التطوعي وغيرها من الكيانات العابرة للانتماءات الأولية ، والتي توحد السودانيين علي أسس الفكر والقيم الانسانية متجاوزة العرق و العصبية النتنة.كما يكمن الاستفادة من التجارب الانسانية الناجحة لبناء نظام ديمقراطي توافقي في السودان تلبية لواقع وحاجة مجتمعنا المتعدد في هذه المرحلة الحرجة من عمر الأمة السودانية .

https://shihabeldinabdelrazigabdalla.blogspot.com/





































السبت، 12 مارس 2022

حول ثقافة الديمقراطية وراهن الصراع السياسي في السودان

 


           


                 

إن الديمقراطية علي تجددها وتنوع أشكالها تتفق في أنها منهج حكم يعتمد علي إرادة الشعب ، ويتيح تعددا في الرؤي والخيارات ، وسلطة الشعب تكتسب قيمتها الاخلاقية من مباديء المساواة والاستقلالية . والديمقراطية تجربة إنسانية ليست قاصرة علي عرق أو جغرافيه محدده ، والدليل علي ذلك أنها طبقت في اليابان وبريطانيا وأمريكا والهند وجنوب افريقيا علي تنوع هذه  الأعراق والجغرافيه. فالديمقراطية منهج حكم وثقافة إنسانية في آن واحد، تتيج للفرد والمجتمع وبكل حرية وشفافية ومسؤولية بناء الأدوات التي تلبي وتدير إحتياجاته دون إكراه أو عنف أو وصاية.

وتختلف قيم وموجهات وأنماط السلوك الديمقراطي باختلاف ثقافة وبيئة كل مجتمع ، لكنها تتفق في أغلبها  علي قيم الحرية ، والمساواة والتعددية ، والمواطنة ، والمشاركة ، والتضامن ، والحوار والذي بدوره لن يكون حوارا مفيدا الا إذا قام علي أسس الاحترام و الصدق والشفافية والتألف.

إن المبادي التي تؤسس للديمقراطية من فصل للسلطات الثلاث الي سيادة حكم القانون الي حكم الأغلبية الذي يحترم حقوق الاقليات إستنادا علي مبدأ ديمقراطي أصيل وهو إحترام حقوق الإنسان، وحقه في إنتخابات حرة نزيهة، وكفالة حرياته من حرية التعبير والتجمع والتنظيم وغيرها من الحقوق التي تشكل الضامن لحقوق الافراد ، فلا ديمقراطية دون إحترام حقوق الأقليات ، مرورا بحق  التمثيل والانتخاب ، والالتزام بالتداول السلمي للسلطة .هذه المبادئ الحاكمة للنظام الديمقراطي يتطلب الايفاء بها وعيا وإلتزاما فرديا ومجتمعيا، بل وثقافة سائدة تتشارك هذه القيم والمبادي وتصونها وتدافع عنها في وجه التسلط والاستبداد والإستعلاء وكافة مظاهر السلوك والثقافة الديكتاتورية ، ذلك أن ترسيخ الثقافة الديمقراطية في المجتمع يتطلب تغييرا في العقليات والتكوين النفسي و بناء العلاقات علي أسس ديمقراطية وأن يلتزم الفرد بتطبيق هذه القيم كسلوك في نفسه وبيته ومجتمعه المحلي وفي كل علاقاته بالبيئة من حوله ، وبذلك تستقر الديمقراطية كثقافة سائدة ، ومن ثم يمكن إستدامتها كنظام يلتزم به الفرد ويتوافق حوله المجتمع .

وباسقاط قيم وموجهات وأنماط السلوك الديمقراطي علي واقعنا السوداني وثقافتنا السائدة حاليا ، والتي في تقديري تعاني فقرا في القيم الديمقراطية ، وهذا الفقر القيمي لايرتبط فقط بمجتمعاتنا المهمشة أو محدودة التعليم والمعرفة أو التي يسيطر فيها الولاء القبلي علي حساب مفهوم المواطنة والولاء للدولة كحاضنه للجميع ، لكنه يظهر حتي في سلوك كثير من المؤسسات التي من المفترض أن تكون مهنية وقومية وملتزمة جانب القانون روحا ونصا ، فمثلا ، العنف المميت الذي تمارسه بعض مؤسسات الدولة في مواجهة الثورة السلمية يتعارض مع حق حرية التعبير والتجمع ،  والاستبداد والاستعلاء والإقصاء الذي تمارسه بعض النخب عسكرية أو مدنية هي من سمات الأنظمة الديكتاتورية ، وهي نقيض الديمقراطية ، بل إن بعضا من هذه السمات غير الديمقراطية وجدت طريقها الي أحزاب ونخب ذات واجهات ديمقراطية وسلوك يخالف تماما الثقافة الديمقراطية ، فمثلا الحوار القائم علي الاحترام والصدق والشفافية والتألف بين الأحزاب السياسية هو أحد القيم الديمقراطية الا أن كثيرا من العنف اللفظي والسجال الدائر في الفضاء السياسي، بل و في كافة المجالات في مجتمعنا ، يتعدي المفهوم الديمقراطي والايجابي للحوار والنقد ، ويقع ضمن إطار العنف النفسي سخرية وتجريحا وتخوينا وتسفيها للمخالفين في الرأي دونما إحترام لحرية الرأي والاستقلالية وحق الإنسان أو التنظيم أو المؤسسة في الاختلاف .كما أن بعضا من نخبنا و مؤسسات مجتمعنا الديمقراطية تضيق بالرأي الآخر ، وإن أظهرت غير ذلك ، وتعمل سرا للكيد علي المخالفين بالرأي( أفرادا أو تنظيمات) ، بل وتشويه صورتهم ظلما وعدوانا ، وذلك سلوك غير ديمقراطي يفتقد الي الاحترام والصدق والنزاهة والاستقامة والعدالة ، هذا عن نخبنا ومؤسساتنا التي بها قدر من الثقافة الديمقراطية، أما تلك المؤسسات والنخب ومجموعات المصالح التي تربت تحت كنف الثقافة الديكتاتورية ودافعت عنها ، ففي فقرها لثقافة الديمقراطية في أقوالها وأفعالها حدث ولا حرج ، وواقع حال وطننا بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر أبلغ من كل مقال . 

وفي حاضر الصراع السياسي الراهن في وطننا ، والذي هو احد تجليات ضعف الثقافة الديمقراطية في مجتمعنا  ، فقد إنقلبت المؤسسات العسكرية بقوة السلاح علي شراكتها مع  قوي الحرية والتغيير وأبعدتها من مؤسسات السلطة الانتقالية في تعارض تام مع ماجاء في الوثيقة الدستورية في سلوك ديكتاتوري يكرس لاستمرار ثقافة نقض العهود والمواثيق ، ويورث واقعا من إنعدام الثقة والانقسام ، قد يتجاوز مداه قمة السلطة ليصل ضرره لمؤسسات قاعدية من المفترض أن تكون قومية ومستقلة ومهنية وبعيدة عن الاستقطاب السياسي، كما أن الانقلاب أوقف مسيرة التحول الديمقراطي ، وألحق ضررا بمصالح الوطن العليا داخليا وخارجيا ، و في كل جوانب الحياة الاقتصادية والأمنية والاجتماعية ، كما أضر بالتطور السياسي في البلاد ثقافة وأدوات ، كون أن تجربة شراكة الأحزاب السياسية في الحكم ترسيخ لدورها الأصيل المختطف من قبل الشموليات العسكرية المتعاقبة باعتبار أن الأحزاب أداة للتنمية السياسية والحكم في المجتمع الديمقراطي، ولأن تطوير دور الأحزاب السياسية في المجتمع كاتحاد طوعي علي أساس الفكر يدعم إتجاه بناء دولة المواطنة التي تحترم التنوع وتحميه في وطن تصاعدت فيه روح العصبية للقبيلة ، بل وأصبحت مهددا لوحدة وتنوع وتماسك المجتمع ، كما أن تطوير الأحزاب السياسية وتحالفاتها لتقوم بدورها في النظام الديمقراطي يمنع طغيان الفرد ورأس المال، و يحد من تأثير الشعبوية التي تقدم خطابا حماسيا يعتمد الإثارة والكراهية . وفي رأيي ،  لايزال الرجاء كبيرا ومعقودا علي فكرة التحالفات السياسية لتكون الاداة السياسية التي يقوم عليها المشروع الوطني الديمقراطي ، وفي تجربة تحالف قوي الحرية والتغيير ، والتفاف كل مكونات الثورة علي إختلاف رأياتها تحت قيادته في الموجة الأولي لثورة ديسمبر التي توجت بخلع البشير ، مايؤكد ضرورة توحيد العمل المقاوم للانقلاب تحت مظلة واحدة ومركز قيادة واحد ،  حتي لاتصبح المقاومة الجماهيرية جزرا معزولة عن بعضها البعض مما يسهل علي قوي الانقلاب قمعها  ، وقد كان من الممكن أن تستمر تجربة تحالف قوي الحرية والتغيير الناجحة إن وضعت أليات لإدارة التباين والخلاف علي قاعدة الاتفاق علي الحد الأدني الذي يوحد كل قوي الثوره ، فجميع قوي الثوره تتفق  علي الأهداف ، وتختلف فقط في التاكتيك ليلوغ تلك الأهداف، وكل قوي الثورة تتفق علي خطورة النظام البائد علي حاضر ومستقبل الديمقراطية في السودان ، وتتفق علي ضرورة تفكيك جهاز الدولة الشمولي ،الذي يمثل قاعدة الهرم التي وقف علي رأسها  المخلوع لثلاثة عقود ، وتجديد  هذه القاعدة بجهاز دولة يقوم علي أسس المهنية والثقافة الديمقراطية ، وكان من الممكن أن يمضي التحالف بثبات في إنجاز هذه المهمه الرئيسية ، وفي انجاز الاصلاح القانوني وإكمال عملية السلام وإتمام نواقصه ليكون سلاما شاملا ومستداما ، لكن الطموحات الذاتية لبعض النخب والأحزاب وقوي الكفاح المسلح في معسكر الثورة ، أضرت كثيرا بتماسك ووحدة الشارع الثوري وبددت هذه الصراعات المبذولة في كل الوسائط الإعلامية ثقة قدر كبير من الثوار في رشد الطبقة السياسية بتركيبتها الحالية ، وفي مدي جديتها و إلتزامها بقيم وأهداف الثورة السودانية ، ومعلوم أن الصراع السياسي ليس بين طرفين ديمقراطي وإنقلابي فقط ، بل هو صراع متعدد الاقطاب ومتنوع الاتجاهات والمسارات ، ومنه مثلا الصراع فيما بين القوي السياسية المدنية داخل قوي الحرية والتغيير نفسها ، و يمتد الي خارجها في قوي الثورة المؤثرة غير الممثلة في هياكل تحالف قوي الحريه والتغيير كلجان المقاومة وتجمع المهنيين الذي مثل بجناح وأحد ، وكان من الحكمة تمثيل المجموعتين المتصارعتين في تجمع المهنيين داخل المجلس المركزي بل والعمل علي توحيد جهودهما ( إن تعذر رأب الصدع )  من خلال العمل المشترك و الاهداف المتفق حولها بين كل مكونات التحالف ، كما وتم تجاهل عدد من المجموعات الشبابية الفاعلة في الثورة ، والتي أثر سلبا عدم تمثيلها في المجلس المركزي للتحالف في إسماع صوتها، وخلق الرضا و التوافق علي القرارات التي تعبر عن خطها السياسي وقواعدها و مطالبها وأولوياتها ، ولابد من تصحيح هذا الخلل التنظيمي حال تم التوافق بين كل مكونات الثورة علي إعادة  توحيد مركز العمل المعارض للانقلاب ، كما لابد من تمثيل غير المنتمين حزبيا من المفكرين والمثقفين والاعلاميين و صناع الرأي ، في الداخل والخارج ، وقد كان في تجربة تحالف  (التجمع الوطني الديمقراطي) ما يعرف بالشخصيات القومية ضمن إطار هيئة القيادة ، ويمكن الاستفادة من تلك التجربة وتطويرها لتمثيل الملتزمين جانب الثورة من غير المنتمين حزبيا وفقا لمعايير ونسب يتم التوافق حولها ، و هذا في تقديري،  سيسهم في تعزيز المشاركة وتوسيع قاعدتها وتقوية التحالف السياسي ، كل هذه الإصلاحات يجب أن تتم بمشاركة ممثلين عن كل قوي الثوره علي قدم المسأواة ، وليس منحة من أحد ، و وفقا لميثاق سياسي جديد وأسس ومعايير متفق حولها، ولائحة تنظيمية معلنة وواضحة وعادلة ، تنتج مركز قيادة واحد ، يكون بالفعل ممثلا ومعبرا عن كل قوي الثورة ، يدير دفة الثورة في إتجاه تحقيق أهدافها ،كما لابد من مواصلة الحوار والتنسيق مع الحزب الشيوعي السوداني والتوصل لتفاهمات حول نقاط الخلاف التي دفعت الحزب الشيوعي لمغادرة صفوف التحالف رغما عن انه أحد مؤسسيه من خلال كتلة قوي الإجماع ،فمايجمع أضعاف أضعاف ممايفرق، وهدف الدولة المدنية الديمقراطية هو الغاية وإن تعددت الطرق لذلك،  بل والرجاء ، أن لايقتصر دور التحالف السياسي علي فترة الانتقال فقط ، بل أن يستمر لما بعد الانتقال ، ويخوض إنتخابات مابعد الفترة الانتقالية وفقا لقائمة موحدة وبرنامج متفق حوله يعبر عن مطالب وأهداف الثورة ، ويكمل ما لم يتم إنجازه في فترة الانتقال ، ذلك أن إصلاح خراب الدولة السودانية يحتاج لأكبر تحالف سياسي ثوري ممكن ومنسجم علي برنامج الحد الأدني ، تجميعا للجهود وتعظيما للنفوذ وتوحيدا للاتجاه والهدف نحو تأسيس سلطة مدنية ديمقراطية في دولة المواطنة و المؤسسات ، وحكومة تنفيذية منتخبة تهتم بالأمن والاقتصاد والعمران والخدمات ، فتحديات الراهن السوداني ذات طبيعة تأسيسية يتطلب إنجازها بناء أكبر تحالف سياسي ثوري مؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية وبقيم وأهداف ثورة ديسمبر المتجددة ، ولا يستطيع أي حزب بمفرده إنجازها أو تجاوزها ، خاصة أن كل أحزابنا السياسية علي إختلاف مدارسها الفكرية تعاني ضعفا في الموارد المادية والبشرية ، وتقادما في مرجعياتها الفكرية مما يتطلب تجديدا فكريا وبرامجيا عميقا في كثير من أطروحاتها النظرية ومناهج عملها لتتوافق مع متغيرات و روح العصر ، فتراكم وتطاول أمد الشموليات العسكرية وإستهدافها الممنهج للأحزاب السياسية أثر سلبا علي تمدد جماهيرية الأحزاب السياسية . وقد دفعت الأحزاب السياسية التي عارضت إنقلاب البشير تكلفة مواقفها المبدئية تشريدا وملاحقة لكوادرها ، وتجفيفا لمواردها وتحملت لثلاثة عقود صنوفا من الأذي والعذاب ،  ومن الانصاف، أن يكون لها القدح المعلي في تشكيل وهندسة مسار الانتقال ، والدعوة لابعاد الأحزاب السياسية من المشهد الانتقالي هي دعوة للشمولية، ولاختطاف القرار السياسي لمصلحة أفراد ومجموعات مصالح يسهل السيطرة عليها وإختراقها ، وذلك لانه من الصعب السيطرة علي مجموعة أحزاب سياسية لها برامج ومباديء وقيادات وقواعد ولها أرث من النضال والصمود ، ولها قبل كل ذلك مصلحة في التحول الي حكم مدني ديمقراطي مستدام .لهذا فالحاجة تفرض إستمرار تحالف الأحزاب السياسية والقوي المدنية والنقابية ولجان المقاومة ، ويمكن إختيار إسم جديد للتحالف ، بعد أن كان التمسك باسم قوي الحرية والتغيير ضرورة أقرتها نصوص الوثيقة الدستورية التي شيعها العسكر بانقلابهم في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ، علي أن يعكس الاسم الجديد أهداف قوي الثورة في تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية وقيمها في الحرية والعدالة والسلام . وإعادة بناء التحالف وتطويره علي أسس توافقية جديدة مهمة شاقة وتتطلب تواضعا من كل قوي الثورة ، وبأعجل مايكون ، فليس لدينا ترف الوقت ، فالانقلاب العسكري يتمدد يوما بعد يوم مدعوما بالانتهازية الفاسدة المساندة للشمولية من قواعد المؤتمر الوطني ومجموعات المصالح مدعومة بكل إمكانيات الدولة المختطفة ، وبما نهبته هذه المجموعات من ثروات بوسائل إجرامية خالية من أي سقوف أخلاقية أو دينية أو قانونية، كل ذلك بهدف تصفية الثورة السودانية وقبرها ، ولملمة أطراف النظام الشمولي الفاسد ، وترميم دعائمه المتهالكة، و يستثمر خطاب الثورة المضادة كثيرا في التناقضات التي يفرزها التباين السياسي في المواقف بين قوي الثورة الفاعلة ، عملا بمبدأ ( فرق تسد) ، وتبث الثورة المضادة سمومها عبر الشائعات، بعد أن فقدت مصداقيتها في الظهور العلني ككيان سياسي لفظته الجماهير في ثورة سلمية فريدة ، وليس بعيدا عن ذلك صراع أخر أكثر شراسة وعدوانية ، وهو الصراع المحموم بين مجموعات المصالح الاقتصادية المتنافسة حول الموارد والثروات والإمتيازات ، والمرتبطة عضويا بنخب وتيارات سياسية ومؤسسات محلية و عابرة للحدود ، تتبادل معها المصالح والخدمات. 

هذا الواقع المعقد بصراعه المركب والمستعر يسيطر علي الحالة السودانية تماما ، ويدور كل هذا الصراع حول قضية واحدة ، قضية السلطة والقياده ، علي إختلاف أهداف وأدوات ووسائل من يتنافسون حولها.

وفي تقديري ؛ أن فترة حكم رئيس وزراء الثوره المستقيل د. حمدوك  ناجحة تماما قياسا بما واجهته من عراقيل ومكائد وأزمات مفتعلة من داخل مؤسسات الدولة بشقيها المدني والعسكري وعلي كافة مستويات الحكم ، مما ساهم بقدر كبير وبشكل مباشر في تراجع الخدمات الأساسية المقدمة للجماهير في كافة ضروريات الحياة ، رغما عن الصمود الاسطوري للثوار في مواجهة التجويع والملاحقة والانفلات الامني، وقد فرض جهاز الدولة عقابا جماعيا علي شعبنا باهماله الخدمات وإفتعاله الأزمات وفي كل مناحي الحياة ، وذلك لزيادة منسوب السخط والغضب وسط المواطنين تشويها و تحريضا علي حكومة الثورة وإظهارها في ثوب العاجز ، لكن الشعب أقوي وأذكي ، فلم يستجب لمؤامرات جهاز الدولة ، ومع الصمود الاسطوري للثوار خلف رئيس الوزراء  د.حمدوك ومجلسه لم يكن هناك خيار أمام العسكر الا القيام بانقلاب عسكري تقليدي، وقد كان في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، حيث تم فيه حل الحكومة وتجميد العمل بالوثيقة الدستورية وإعتقال الوزراء والقيادات السياسية المنحازة للثورة ، وتقييد حركة وإتصالات رئيس الوزراء ، وغيرها من الانتهاكات مما إعتدناه من سلوك ديكتاتوري في الانقلابات العسكرية التقليدية ، وقد كان وعي الجماهير بما يحكيه جهاز الدولة المتأمر علي الثورة وحكومتها  متقدما حتي علي وعي القيادات السياسية والتنفيذية التي مثلت الثورة في الخدمة العامه ، والتي لم يكن رد فعلها حاسما وسريعا تجاه مؤامرات جهاز الدولة علي الثورة السودانية ،  والمفروض أن جهاز الدولة بمؤسساته المدنية والعسكرية جهاز خدمي يقدم خدماته بحياد و للجميع ، و الانتماء فيه والأولوية للمصلحة العليا للوطن و المواطن ، لا لحزب محدد أو حكومة بعينها  ، ذلك أن الاحزاب أداة لخدمة الوطن في المجال السياسي ، والولاء لها مهما عظم ليس غاية في حد ذاته بل وسيلة لخدمة إنتماء أكبر وهو الوطن ، وقد فضحت  تجربة ثلاثة عقود لكل من له بصر وبصيرة من منسوبي النظام البائد فساد حكمهم وأن نظامهم غير مؤتمن علي موارد ومصالح البلاد والعباد ، وكان الأجدي بعد تلك التجربة أن تنصرف مؤسسات الدولة بكل منسوبيها بغض النظر عن إنتماءاتهم الحزبية لدعم الثورة والتغيير خاصة بعد ثبوت فساد النظام المخلوع ، فالحكومات متغيرة ، ويجب أن لايكون عمل مؤسسات الدولة رهينا بوجود أشخاص محددين أو حزب بعينه في السلطة ، والمؤكد أن الثوار كانوا يريدون مدنية كاملة تنصرف فيها المؤسسات العسكرية لأداء مهامها الأساسية  في حفظ الأمن والدفاع ومايليها في الخدمات بمهنية وإحترافية ، وأن تطبق القانون كما يجب ، علي الشريف قبل الضعيف ، وأن تترك العمل السياسي للأحزاب السياسية ، لا أن تستحوذ علي السلطة وتفشل عمل شريكها المدني مع سبق الاصرار والترصد ، تعضدها في ذلك قوي الثورة المضادة في المؤسسات المدنية المحتكرة من قبل عضوية النظام البائد وحزبه الفاسد ، وقد شهدنا في تجربة النظام البائد عجبا ، وهو الجمع بين نقيضين لايجتمعان الا عند أغلبية( الكيزان) فهم (متدينون جدا وفاسدون جدا )، متدينون شكلا وفاسدون سلوكا  ، ولايطرف لأحدهم جفن في قتل الابرياء بدم بارد أو تعذيبهم  أو التعدي علي المال العام ، أو في أفضل الاحوال تقبل تلك الانتهاكات والتعايش معها وعدم إتخاذ موقف واضح ومعارض لها ، أما إذا تم تقديم( الكوز) الي التحقيق من جهة قانونية عن ما أقترقت يداه من فساد وإفساد (فذو دعاء عريض) تكفيرا للحكومة وتخوينا لها ، كما كانوا ينعتون بهتانا وزورا حكومة رئيس الوزراء المستقيل د.حمدوك. . وقد إستطاع دكتور حمدوك بما يتميز به من هدوء وحكمة ومرونة فكرية ورؤية لابعاد المشهد السوداني بكل زواياه الداخلية والخارجية السير بحكومة الانتقال في طريق وعر وشاق وشائك ،وأجتهد كثيرا في ترجيح توازن القوي لمصلحة قضايا الثوره في دوائر السلطة دون ضجيج وإدعاء أجوف ، إلا أن ماعايشناه علي أرض الواقع طيلة فترة حكومة الثورة يؤكد حقيقة صادمة أن إستقرار النظام السياسي الديمقراطي في السودان يحتاج إلي قطيعة شاملة مع إرث الشموليات (مؤسسات وهياكل وثقافة عمل وشخوص) ، وما لم يتم النظر في إعادة هيكلة  كل مؤسسات الدولة وفقا لهياكل وثقافة عمل تحترم المهنية والقانون وتؤمن بالديمقراطية وتنتهج العدالة ، وتعلي من قيمة الوطن وخدمة المواطن ، فلن يستقر التحول الديمقراطي، لانه من المستحيل أن يستقر النظام السياسي الديمقراطي للدولة علي قاعدة من الشمولية و الفساد، ذلك أنه مهما توفرت قدرات وعلاقات  لرأس الهرم التنفيذي فلن يستطيع العمل والانجاز دون قاعدة مهنية متعاونة تترجم تعاونها تنفيذا عمليا لسياسات وخطط وبرامج الحكومة ، بل وحتي قيادات الثورة في الجهاز التنفيذي التي أحسنت الظن في إمكانية إعادة تصحيح المفاهيم في جهاز الدولة وإنتهجت سياسة( التحييد)  في المؤسسات لم تحقق نجاحا في إنجاز عملها ، لانها في الأساس لم تواجه جهاز دولة قابل للحياد ، بل واجهت حزبا سياسيا إبتلع جهاز الدولة تماما ، وسيطر عليه فكريا وماديا، بل ومن جشعه ، أنشأ جهازا موازيا للدولة (خاطف لونين ، مزيج من عضوية حزب المؤتمر الوطني وعضوية الحركة الإسلامية ( أحمد وحاج أحمد علي حسب تعبير المخلوع الذي جاء ضمن وثائقيات الأسرار الكبري لحكم الإخوان في السودان علي قناة العربية ))، وقد أثقل هذا الجهاز الموازي فاتورة الصرف علي الخزانة العامة ، وكان هدف النظام من هذا الجهاز الموازي توسيع قاعدة المنتفعين منه وزيادة اعداد من يدنيون له بالولاء التام ، فمثلا في مواجهة جهاز الأمن الرسمي نشأ جهاز الأمن الشعبي كجهاز مواز ، وفي مواجهة وزارة الخارجية كمؤسسة حكومية نشأ جهاز الصداقة الشعبية كجهاز مواز ، وفي مواجهة الشرطة نشأ جهاز الشرطة الشعبية كجهاز مواز ، وفي مواجهة الجيش نشأ الدعم السريع والدفاع الشعبي كأجهزة موازية ،..والقائمة تطول ، والاختلاف بين جهاز  وأخر في أي من أجهزة الدولة الرسمية أو غير الرسمية ليس حول الولاء للنظام البائد فذلك متفق حوله ، بل في درجة الولاء للنظام البائد وحزبه الفاسد ، حيث يسيطر كوادر المؤتمر الوطني علي كل إن لم يكن أغلب مفاصل الدولة في مستوياتها العليا و الوسيطة والتشغيلية ، ويرون في الثورة السودانية وكل ما يمثلها تهديدا وجوديا يجب إزالته ومحوه تماما ، وهذا يفسر إستقرار الخدمات وتوفر السلع الأساسية بعيد انقلاب ٢٥ أكتوبر  ، رغما عن عدم إكتمال هياكل حكومة الانقلاب ، والتي تعمل حتي الان بدون رئيس وزراء ، وهذا يدلل علي أن أكبر معوق ومهدد لاستدامة التحول الديمقراطي في السودان هو جهاز الدولة ، وتاريخيا يمثل هذا الجهاز المترهل والفاسد القاعدة التي إستندت عليها كل الأنظمة الشمولية في السودان ، علي إختلاف توجهاتها الفكرية ، وهو جهاز معاد تماما للديمقراطية وثقافتها وقيمها ، وهو في تقديري الخطر الحقيقي الذي يواجه سلطة الثورة متي ماقدر لها الانتصار مرة أخري  ولابد من إعادة صياغته من جديد ، وهذا مايفسر  غضبة جهاز الدولة الشمولي (مدنيه وعسكريه، رسميه وموازيه) علي عمل لجنة إزالة التمكين ، والإستهداف الممنهج والمستمر لاعضاء اللجنة الموقرين ، ذلك أن اللجنة( من حيث المبدأ) قد وضعت مبضعها علي مكان الداء تماما ، لهذا لابد من تطوير ودعم عمل لجنة إزالة التمكين مستقبلا ودراسة تجربتها السابقة ومعالجة كل أوجه الخطأ والقصور فيها ، فالهدف من إزالة التمكين ليس الانتقام أو التشفي ولكن إزالة الفساد المتراكم الناتج من سوء الإدارة والمحسوبية وسيطرة حزب واحد علي جهاز الدوله، وفتح الطريق لدعم مسار التحول المدني الديمقراطي من داخل جهاز الدولة ، أيضا من القضايا التي أخذت حيزا في الجدل والنقاش ، قضية تعيين الوزراء من خلفية سياسية أم فنية في المجال المحدد (تكنوقراط) ، وفي رأيي يجب أن لانضيق واسعا ، فهناك وزارات يمكن للسياسيين أن يقدموا فيها اداء أفضل ، وهناك وزارات ذات طبيعة فنية يمكن للتكنوقراط أن يضيفوا قيمة لها ، وهناك سياسيون لهم خبرات وتجارب في مجالات متخصصة كما أن هناك تكنوقراط لهم حس سياسي سليم ، لهذا فالافضل أن تكون المعايير مرنة حتي نضمن إختيار الافضل من بين طيف واسع من المرشحين ، خاصة أن المرحلة الانتقالية تواجه تحديات سياسية وفنية في آن واحد وفي كل مستويات جهاز الدولة. اما بالنسبة لمنصب رئيس الوزراء ، فقد أثبت دكتور حمدوك حكمة ورشدا وبعد نظر في التعامل مع كثير من ملفات الانتقال المعقدة محليا ودوليا ، هذا إضافة لخبرته الاقتصادية وعلاقاته الدولية الوثيقة التي سخرها لمصلحة الوطن ، إضافة للقبول الواسع الذي حازه علي المستوي الجماهيري، وفي سابقة لم تتكرر ، فقد إتفقت حول شخصه إرادات متباينة سياسيا ومجتمعيا ، هذا القبول المجتمعي والدولي، يدعم حظوظ عودة د.حمدوك لمنصب رئيس الوزراء ، وهو جدير بهذه المسؤولية.

أيضا من القضايا التي تعكس مسؤولية المجتمع تجاه الانتصار لثقافة وقيم الديمقراطية ، قضية الشهداء والمفقودين والمصابين ، والناشطين الذين تضرروا جراء مواقفهم الشجاعة في الدفاع عن قيم الديمقراطية إما بالتعذيب أو الاعتقال أو الملاحقة والتضييق أو غيرها من أدوات التنكيل ، هذه القضايا تهم المجتمع ككل ، ويجب أن لاتهمل و تترك وكأنها قضايا فردية خاصة بأسر الشهداء و المفقودين والمصابين والناشطين فقط ، فهذه التضحيات قدمت من أجل المصلحة العامة للوطن ، وتجاهل التضامن والمساندة والدعم وجبر الضرر يعكس حالة من عدم المسؤولية والخذلان ، و بلادة في المشاعر تجاه قضايا الثورة والثوار .

إن نجاحنا كسودانيين في تطبيق الديمقراطية كنظام سياسي في مجتمعنا رهين بمدي تشبع أفراد مجتمعنا بالقيم الديمقراطية والممارسة العملية لها في البيت والمدرسة والجامعة ودور العبادة والحزب وغيرها من مؤسسات المجتمع ، وقد أتفقت أغلب الدراسات النظرية والتجارب الانسانية حول المسألة الديمقراطية في أنه لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين ، ولا ديمقراطيين من غير ثقافة وتربية وتعليم يقوم علي التنشئة بالقيم والموجهات والسلوك الديمقراطي، وأن ديمقراطية الحياة السياسية تنبع من ديمقراطية الحياة الاجتماعية.

إن فقر مجتمعنا للثقافة الديمقراطية يستدعي تضافرا للجهود من كافة الديمقراطيين في نشر وترسيخ قيم الديمقراطية ،وجعلها ثقافة تحرر أفراد مجتمعنا من كل أمراض التسلط والفساد والاستبداد والاستعلاء ، وهنا تبرز الحاجة (بعد عودة المسار الديمقراطي ) الي تطوير العملية التعليمية بشكل شامل(هياكل ومحتوي ) وإقرار سلوك تربوي يرتكز علي مباديء الثقافة الديمقراطية،  ويجرم العنف بكل أنواعه وأشكاله تجاه التلاميذ ، حتي لا نغرس فيهم ثقافة القمع منذ الصغر ، كما لابد من أن تتداعي المراكز  الثقافية والبحثية وأقلام الإستنارة السودانية في الداخل والخارج علي دراسة وتشخيص أمراض مجتمعنا وحالته الثقافية ، والتصدي بشكل علمي وعملي لمكامن وجذور ثقافة الاذعان و الرضوخ كخطوة في بناء الفرد الحر المستقل والمستنير ، الواثق من نفسه ، المشارك في صنع القرار ، والرافض لكافة أشكال التسلط والاستبداد والاستعلاء . وبما أن تجذر الثقافة الديمقراطية في الفرد و المجتمع عملية تراكمية ، فمن المؤكد أنه وبمرور الوقت ، و زيادة التعليم و الوعي وتطوير الممارسة الديمقراطية ، فسيتشبع الفرد ومن ثم المجتمع بقيم الثقافة الديمقراطية ، حينها يمكن للديمقراطية أن ترسخ في بلدنا كنظام سياسي بعد أن تستقر كمنهج حياة في مجتمعنا السوداني.