الجمعة، 22 أبريل 2022

إضاءات حول الإقتصاد الإبداعي


خصصت الأمم المتحدة العام الماضي عاما للاقتصاد الإبداعي أستجابة لمبادرة إندونيسية و بموافقة من 81 دولة حول العالم ، هذا التأييد الدولي يعكس حجم إهتمام العالم بهذا النموذج الاقتصادي ، حيث تقدر الأمم المتحدة مساهمة الاقتصاد الابداعي بمايعادل 3%  من الناتج الإجمالي العالمي ، بقيمة تقدر ب 2.25 تريليون دولار أمريكي سنويا ، وأن هذا النموذج الاقتصادي سيكون أحد المحركات الرئيسية للاقتصاد العالمي ، و يري إقتصاديون أن أثر الاقتصاد الإبداعي أكبر من ذلك بكثير وأن الوعي بتأثير هذا النموذج الاقتصادي علي أهداف التنمية المستدامة مازال محدودا خاصة في دول الجنوب ، وأن الإحصائيات والمعلومات والدراسات حول تاثير الاقتصاد الإبداعي تحتاج الي إهتمام وتجويد أكبر .

والإقتصاد الإبداعي بحسب منظمة اليونسكو و برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يوجد في المكان الذي تلتقي فيه الفنون والثقافة والتجارة والتكنولوجيا. و يشير الباحث البريطاني جون هوكنز مؤلف كتاب (الإقتصاد الإبداعي) الصادر في العام 2001 ، الي أن الاقتصاد الإبداعي يقوم علي تفاعل الإبداع البشري وقوانين الملكية الفكرية والمعرفة والتكنولوجيا ، وبحسب هوكنز فأن قائمة أنشطة الإقتصاد الإبداعي تضم الهندسة المعمارية ، والفن ، والحرف اليدوية ، والتصميم ، والإعلان والأزياء ، والأفلام ، والموسيقى ، والفنون المسرحية ، والنشر ، والبحث والتطوير ، والبرمجيات ، والتلفزيون ، و الراديو وألعاب الفيديو .

وتري المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) أن الاقتصاد الإبداعي قائم علي إنتاج وتسويق  الإبداع المحمي بحقوق الملكية الفكرية ، و الوعي بأهمية حقوق الملكية الفكرية جوهري و ضروري لتطوير الاقتصاد الإبداعي ، وضمان حقوق المبدعين والناشطين إقتصاديا في صناعة الفن والثقافة .

والإهتمام بالاقتصاد الإبداعي حول العالم لا يقتصر علي الدول المتقدمة فقط ، بل زاد الإهتمام بهذا النموذج في عدد من الدول النامية مثل إندونيسيا التي أضافت لوزارة السياحة قطاع الاقتصاد الإبداعي ، وأصبحت تعرف هناك بإسم وزارة السياحة والاقتصاد الإبداعي ، كما حددت إندونيسيا قائمة نشاطات الاقتصاد الابداعي ، وأنشات مؤسسة مختصة بقضايا الاقتصاد الإبداعي تعرف باسم ( الوكالة الإندونيسية للاقتصاد الإبداعي ) وتعني برسم السياسات والتنسيق بين المؤسسات الحكومية بهدف تهيئة الظروف للاقتصاد الإبداعي حتي يصبح دعامة أساسية للاقتصاد الوطني الإندونيسي ، وذلك من خلال تمكين الشركات الإبداعية الاندونيسية علي النمو وزيادة قدراتها التنافسية ، وتنشط تلك الوكالة في ستة محاور هي البحث والتطوير والتعليم ، والحصول على رأس المال ، والبنية التحتية والتسويق والتسهيل ، وتنظيم حقوق الملكية الفكرية ، والعلاقات الحكومية الدولية ، والعلاقات المحلية. وبحسب إحصائيات رسمية فقد حقق الاقتصاد الإبداعي في إندونيسيا في العام 2017 ما يزيد على 7 % من إجمالي  الناتج المحلي  ، ووظف نحو 15.9 مليون شخص ، وتاثيره علي الاقتصاد الإندونيسي في نمو و تصاعد مستمر كل عام .

والتجربة الإندونيسية ليست الوحيدة أو الأخيره فقد نشطت مؤخرا إمارة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة في الإهتمام بالاقتصاد الإبداعي ورسمت إستراتيجية متكاملة لتعزيز تنوعها الإقتصادي من خلال تطوير وتحرير القدرات الكامنة في الاقتصاد الإبداعي ، وتهدف إمارة دبي من إستراتيجيتها تلك إلى زيادة عدد الشركات والمؤسسات الإبداعية والثقافية لتصل الي عدد 15000 شركة ، لتساهم بما يعادل  5% من إجمالي  الناتج المحلي للإمارة ولتخلق 140 ألف وظيفة في قطاعات الاقتصاد الإبداعي المختلفة وذلك بحلول العام 2026 ، وجعل إمارة دبي مركزا للاقتصاد الإبداعي علي مستوي المنطقة والعالم ، وذلك من خلال جذب المبدعين الذين يرغبون في تأسيس أعمالهم الإبداعية ذات الطابع الإقتصادي في دبي عبر منحهم تسهيلات في  الإقامة والفيزا الثقافية طويلة الأمد.

وعلي مستوي الاقتصاديات الكبري ، و وفقا للتقارير المنشورة وبيانات مكتب التحليل الاقتصادي في وزارة التجارة الأمريكية لعام 2017 ، فقد بلغ الناتج الإقتصادي في قطاعات الاقتصاد الإبداعي نحو 920 مليار دولار، بمساهمة تقدر ب 4.3 % من إجمالي الناتج المحلي ، فيها نحو 33 مليار دولار فائض تجاري من تصدير الأعمال الفنية والسلع والخدمات الثقافية كالأفلام وألعاب الفيديو .

أما في الصين فقد أسهمت القطاعات الإبداعية بما يزيد على 460 مليار دولار في الاقتصاد الوطني ، أي ما يوازي نحو 4 % من إجمالي الناتج المحلي .

 ووفقا لتقديرات 2018 فإن الاقتصاد الإبداعي في بلدان الاتحاد الأوروبي أسهم بما يعادل 5.3 % من إجمالي الناتج المحلي للإتحاد الأوربي ، أي ما يعادل 550  مليار دولار وساهم في خلق 12 مليون وظيفة . 

هذه المساهمات المؤثرة للاقتصاد الإبداعي علي مستوي الاقتصاديات الكبري، والاهتمام المتعاظم بتطوير هذا النموذج الاقتصادي علي مستوي الدول النامية يعكس إتجاه العالم نحو تعزيز الاقتصاد الإبداعي باعتباره من أكثر وأسرع القطاعات الاقتصادية  نموا في العالم .

وقد ركز المؤتمر العالمي للاقتصاد الإبداعي الذي عقد في دولة الإمارات مطلع ديسمبر 2021   تحت شعار ( إبداع متكامل يصنع المستقبل) على ستة محاور أساسية وهي: إطلاق قدرات التعليم ، وإعادة إبتكار العمل، والتحول التكنولوجي، وتعزيز المشهد الإعلامي وقنوات التواصل، ومستقبل مستدام، والتنوّع والشمول .

كما ناقش المؤتمر في أجندته قضايا دعم الثقافة والصناعات الإبداعية ، و الدعم المالي للمبدعين ، وتوفير التمويل من الحكومات أو القطاع الخاص أو القطاعات المجتمعية ، ودعم ريادة الأعمال للمبدعين، والاهتمام الأكبر بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. 

فيما أكدت منظمة اليونسكو علي لسان رئيستها ضمن فعاليات المؤتمر  العالمي للاقتصاد الابداعي علي أن هناك ثلاثة تحديات ملحة تواجه الاقتصاد الابداعي خاصة في اوقات الازمات مثل ماحدث من تداعيات سالبة علي صناعة الثقافة والفنون والمبدعين  إبان جائحة كوفيد 19 , وأول التحديات هو حماية المبدعين وتحسين ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية لهم ، والتحدي الثاني هو التحول التكنولوجي ورقمنة الثقافة التي تخلق مزيدا من الفرص ومزيدا من التحديات في نفس الوقت ، خاصة فيما يتعلق بقضايا التوزيع ، أما التحدي الثالث فهو الحاجة لبيانات أكثر موثوقية ودقة لفهم التحديات التي تواجه الاقتصاد الإبداعي وقطاع الثقافة بما يضمن رسم السياسات المستقبلية للاقتصاد الإبداعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

 وقد أشار تقرير الأمم المتحدة حول الإقتصاد الإبداعي في نسخته العربية المنشور في عام 2015  الي عشرة مفاتيح أساسية لنمو الإقتصاد الإبداعي، منها : ضرورة  الوعي العام بأنّه إلى جانب الفوائد الاقتصادية يستطيع الاقتصاد الإبداعي أن يولّد قيمة غير نقدية يمكنها أن تسهم كثيراً في تحقيق نمو شامل ومستدام يرتكز على الأفراد والمجتمعات ؛ إضافة الي ضرورة جعل الثقافة أداة تحفيز ودعم لعمليات النمو الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ؛ وإبراز الفرص من خلال رسم خارطة الموارد المحلية للاقتصاد الإبداعي  ؛ وأكد التقرير  علي أهمية تقوية أساس المعرفة من خلال جمع البيانات الدقيقة ؛ و ضرورة البحث في الروابط بين القطاعات الرسمية وغير الرسمية  ؛ ولفت التقرير الأممي الانتباه الي اهمية الاستثمار في بناء القدرات المحلّية لتمكين أصحاب المبادرات المحلّية والموظفين الحكوميين وشركات القطاع الخاصّ ؛كما أشار التقرير الي ضرورة تفعيل التعاون الدولي المثمر خاصة بين دول الجنوب من أجل تسهيل التعليم المتبادل ؛ وإدخال الثقافة في برامج النمو الاقتصادية والاجتماعية المحلية.

وقد إتفقت الأراء العلمية حول عناصر السلسلة القيمية المكونة لمنظومة الصناعات الثقافية والإبداعية وهي الابتكار، والإنتاج، والتوزيع، وقنوات النفاذ للمنتجات والخدمات الناتجة من القطاع الابداعي المعين ، و أن تقوية كل عنصر في هذه السلسلة يسهم بشكل فاعل في استدامة النمو ، ومايترتب علي ذلك من أثر إيجابي.

وفي ظل الإهتمام العالمي المتعاظم بالاقتصاد الإبداعي ، لابد للدولة والمجتمع في السودان من تطوير إستراتيجية شاملة تشجع الصناعات الإبداعية والثقافية وذلك من خلال تهيئة البيئة التشريعية و الإستثمارية اللازمة لازدهار الإقتصاد الإبداعي ، وتوفير سبل تمويل مرنة تعمل علي تشجيع المبدعين السودانيين لدمج الإبداع مع الفرص الإستثمارية المتاحة محليا وإقليميا ودوليا لتوليد قيمة إقتصادية وإجتماعية وثقافية ، كما أن الاقتصاد الإبداعي وثيق الصلة بمجالات عديدة كالتجارة والاتصالات ، لهذا لابد من الإهتمام بتطوير البنية التحتية لكل القطاعات المتداخلة في نشاط الاقتصاد الإبداعي. و لابد أن تعبر سياسات الاقتصاد الابداعي عن حاجة ومطلوبات المجتمعات المحلية في قضايا التعليم والهوية الثقافية والبيئة .

ورغما عن وجود أساسيات علمية وعالمية متفق حولها تحفز نمو الاقتصاد الإبداعي لكن هذه الأساسيات لاتنفي البصمة المميزة لكل بلد في موارده الابداعية وميزاته التنافسية القابلة للإستثمار ، وعلينا في السودان إكتشاف مكامن القوة التي يتميز بها إقتصادنا الإبداعي ، ورسم السياسات التي تضمن تطويرها وتقويتها ومعالجة نقاط الضعف ، خاصة مايلي مراجعة و تطوير التشريعات المتعلقة بمنظومة الملكية الفكرية في السودان وتطويرها ، وتصنيف المهن والوظائف العاملة في الاقتصاد الإبداعي ، وتطوير سياسات محفزة  للمبدعين  ، إضافة إلى وضع معايير تحدد جودة الصناعات الثقافية والإبداعية ، وقياس مؤشرات الأداء ، كخطوات ضرورية للنهوض بالاقتصاد الإبداعي في السودان. 


    




































السبت، 16 أبريل 2022

حول السياسة الثقافية في السودان

 


    

     

 

يرجع الفضل في إثراء مفهوم السياسة الثقافية في الدوائر الأكاديمية الي عالم السياسة الأمريكي دكتور كيفن في مولكاهي  ، وإن كان تطوير فكرة السياسة الثقافية يعود الي أدبيات منظمة اليونسكو منذ ستينيات القرن الماضي ، وتعرف السياسة الثقافية بشكل عام علي أنها الإجراءات الحكومية والقوانين والبرامج التي تنظم وتحمي وتشجع وتدعم الأنشطة المتعلقة بالفنون والقطاعات الإبداعية ، مثل الرسم والنحت والموسيقى والأدب وصناعة الأفلام والمسرح وغيرها من الفنون ، وحماية وتطوير اللغات والتراث والتعدد الثقافي ، وما ينتجه هذا التنوع من ثقافات متباينة واسلوب حياة متغير ومتجدد . كما تعرف منظمة اليونسكو الثقافة علي أنها جميع السمات الروحية والفكرية والمادية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة إجتماعية بعينها وتشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة ، كما تشمل الحقوق الأساسية للانسان ومنظومة القيم والتقاليد والعادات ، وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الانسان في مادته رقم 27 )) علي أن :"لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية ، وفى الاستمتاع بالفنون ، والإسهام في التقدم العلمي وفى الفوائد التي تنجم عنه.كما أن لكل شخص حق في حماية المصالح المعنوية والمادية المترتبة على أي إنتاج علمي أو أدبي أو فني من صنعه."

وفي واقع اليوم أصبحت القضايا الثقافية والاقتصادية والاجتماعية متداخلة بل أشبه بالحزمة الواحدة حيث من الصعب حدوث تنمية إقتصادية وإجتماعية في أي مجتمع دون حدوث تنمية ثقاقية لمؤسسات وأفراد المجتمع ، وكلما إرتفع الوعي بأهمية الثقافة وتذوق الفنون وإنتاجها وسط مجتمع ما كلما كان ذلك مؤشرا إيجابيا علي تقدم وجودة الحياة في ذلك المجتمع .

 وفي الواقع السوداني المأزوم ، يعاني النشاط الثقافي علي تنوع وتعدد مجالاته من الشلل التام ، رغما عن وجود وزارة للثقافة تدير عددا من المجالس الثقافية المتخصصة ، والسبب الذاتي المباشر في هذا الجمود هو غياب سياسة ثقافية تقوم علي الشراكة بين الدولة والمجتمع  تدعم وتشجع الابداع السوداني في كل المجالات الثقافية وتجعله متاحا لكل السودانيين  ، إضافة الي أن الأجندة الثقافية علي أهميتها وحاجة بلادنا الماسة لها ، الإ أنها لاتجد الاهتمام والدعم الذي تستحق من صانع القرار الحكومي ، ويظهر ذلك جليا في ضعف ميزانية الدولة المخصصة لوزارة الثقافة و مؤسساتها علي المستويين الاتحادي والولائي ، ومع توارث سياسة الاهمال الرسمي والمجتمعي و غياب الدعم للأجندة الثقافية تداعي ماتبقي من مبان ، حيث أصبحت المسارح السودانية علي قلتها دورا مهجورة ، وتحولت دور السينما الي أطلال وخرابات يسكنها البوم والغربان ، وأندثرت صناعة السينما باندثار مؤسسة الدولة للسينما إلا من مبادرات شابة تكافح لاعادة الضوء مرة اخري علي شاشة السينما السودانية بعد عقود من الظلام ، يكافح هؤلاء الشباب لاعادة الروح لصناعة السينما السودانية في مبادرات منتجة بقدرات ذاتية وطموح لا يحده حدود ، وإن كان ينقص تلك المبادرات المخلصة الدعم المادي الرسمي والمجتمعي ذلك أن صناعة السينما صناعة باهظة التكاليف ، ولا تستطيع جيوب الأفراد مهما كانت سخية تحمل تكلفة النهوض بهذه الصناعة المعقدة التي تحوي في داخلها فنونا عديدة ، و ما يعتري صناعة السينما من تحديات تواجهه الفنون الشعبية التي يذخر بها وطننا المتنوع ، والتي إن لم تجد التطوير والرعاية وفقا لسياسات محكمة ودعم رشيد ، فستضمحل في مواجهة طوفان العولمة الجارف بثقافته كل الحدود والفضاءات. كما تدهورت في بلادنا صناعة الكتاب وتأثرت سلبا بالأزمة الاقتصادية المزمنة ، واغلقت عدد من دور الطباعة والنشر العريقة أبوابها بسبب الخسائر المادية الناتجة من إرتفاع تكاليف صناعة الكتاب ، خاصة تكاليف الرسوم الحكومية المفروضة علي مدخلات هذه الصناعة كرسوم الضرائب والجمارك ، وقل عطاء المواهب المبدعة في كل المجالات الثقافية لعدم القدرة علي التفرغ للابداع بسبب الانشغال في البحث عن لقمة العيش وتوفير أساسيات الحياة في واقع إقتصادي خانق لايتيح التقاط الأنفاس ناهيك عن الابداع ، في الوقت الذي تستنفر فيه الدولة كل طاقاتها المادية لشراء السلاح وأدوات الحرب والقمع ، وتقلل - عمدا أو جهلا - من قيمة الثقافة التي تبني الانسان و السلام والاقتصاد والتنمية ، كما تراجع النشاط التشكيلي داخل السودان ، علي تميز الفن التشكيلي السوداني الزاخز بالمبدعين ، والذي يعد أحد نقاط القوة في الفنون السودانية. وإجمالا ، فقد تجمد تماما النشاط المؤسسي للثقافة في السودان علي تنوعه أو كاد إلا من مبادرات وإجتهادات فردية وبقدرات ذاتية من قبل ناشطين في المجال الثقافي .

هذا الواقع الثقافي الجامد يفرض ضرورة تبني الدولة لسياسة عامة للثقافة تهدف الي الاهتمام بتطوير النشاط المبدع في كل مجالات الثقافة السودانية دعما وتشجيعا ورعاية ليكون حق الانتاج الثقافي والتمتع بخدماته متاحا لكل السودانيين ومعبرا بكل حرية وعدالة وتقدير وإحترام عن تنوع وتعدد الثقافات السودانية و معززا لقيم الانتماء والهوية السودانية ، وعنصرا فاعلا من عناصر القوة الناعمة للدولة و المجتمع ، علي أن تفسر  السياسة الثقافية في خطط وأليات قابلة للتنفيذ والقياس لتحريك وتنشيط عصب الثقافة في الدولة والمجتمع ، دون إغفال لأهمية الإدماج التدريجي للثقافة في كل مجالات السياسة العامة ، باعتبار أن السياسة الثقافية تتكامل مع كثير من مجالات السياسة العامة كمجالات التربية والتعليم والبيئة والسياحة والتخطيط العمراني وسوق العمل وغيرها من المجالات ، ولانجاز عملية الإدماج الثقافي والتكامل بين وزارة الثقافة وكل مؤسسات الدولة بشكل فاعل لابد من هيكلة وزارة الثقافة بحيث تتيح لها الهيكلة الجديدة المرونة لتقوم بدورها المحوري في التنسيق والتكامل بين كل الوزارات والمؤسسات فيما يلي خدمة المحتوي الثقافي علي تعدد المجالات .كما لابد من دعم الاتجاه العالمي الذي يعامل مؤسسات الثقافة كمؤسسات عامة مستقلة عن الجهاز التنفيذي ، وخاضعة لسلطة البرلمان تشريعا ومتابعة. 

 هذا مع أهمية بناء شراكات بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني والفاعلين الثقافيين محليا وإقليميا ودوليا لدعم وتشجيع الإنتاج الثقافي السوداني -علي تنوعه - وتسويقه ودعم المبدعين السودانيين في كافة مجالات الثقافة و الفنون ،  إضافة للاهتمام بتأهيل الكادر البشري العامل في مجالات الثقافة ، وتوفير فرص للمبدعين الشباب لصقل مواهبهم بالتعليم والتدريب في الداخل والخارج ، وبناء القدرات للتنفيذيين خاصة في مجال الادارة الثقافية ،  إضافة لما يمكن أن يحدثه التكامل بين وزارات الثقافة والتربية والتعليم والتعليم العالي من نقلة نوعية في تطوير مناهج الفنون والمحتوي الثقافي بشكل عام في كل المناهج التعليمية بمستوياتها  المختلفة ،مما يثمر ثقافة و إبداعا وحبا للفنون في الاجيال الناشئة .

 كما لابد أن تركز السياسة الثقافية للدولة علي قضية التراث الحضاري المادي وغير المادي ، وضمان حمايته من كافة المهددات وإحترامه علي تنوعه كتراث يعزز قيمة الانتماء والهوية والسلام المجتمعي ، كما يمثل ذاكرة للحضارات السودانية الضاربة في عمق التاريخ  ، إضافة لما يمثله هذا الثراث الثقافي من قيمة إقتصادية من خلال عائدات السياحة وإنعاش سوق العمل.

 أيضا من أهم المطلوبات لاعادة الحياة للثقافة السودانية هو زيادة الميزانية المخصصة لوزارة الثقافة ومؤسساتها والاهتمام بالعمل الثقافي خاصة في الولايات والأطراف ، وذلك لان من حق جميع المواطنين في كل بقعة من أرض الوطن المشاركة و التمتع بالخدمات الثقافية الممولة من الخزانة العامة للدولة ، كما لا يمكن فصل قضايا التنمية والانتاج في الريف عن قضايا الثقافة وإشباع إحتياجات إنسان الريف من الثقافة وتفاعله معها منتجا لها ومستهلكا .

ومن الإجراءات الضرورية في السياسة الثقافية مراجعة كل القوانين والتشريعات واللوائح الخاصة بالعمل الثقافي في السودان مثل قانون الملكية الفكرية وقانون الصحافة وغيرها ، كما لابد من مراجعة كل القوانين التي تؤثر في صناعة الثقافة كقوانين الجمارك والضرائب ، ومنح إعفاءات ضريبية وجمركية لمدخلات صناعة الثقافة- كصناعة الكتاب مثلا - ورقيا كان أم الكترونيا- ، تشجيعا للنشاط الثقافي . كما لابد إن تنص السياسة الثقافية علي حق المبدعين في الأجر العادل والمعاش الذي يضمن لهم ولأسرهم الحياة الكريمة.

 هذا وقد رفد التقدم التكنولوجي المجال الثقافي بابتكارات جبارة إنعكست إيجابا علي تطوير السياسة الثقافية وأدواتها حماية للتراث الثقافي وتنميته خدمة لأجندة الثقافة كمكون من مكونات التنمية الشاملة . بل وساهم التقدم التكنولوجي في نمو وازدهار    الاقتصاد الابداعي من خلال تطوير فنون العمارة والديكور والبرمجيات والاذاعة والتلفزيون والتصوير والرسم والموسيقي وصناعة السينما والأزياء وغيرها من الفنون ، لهذا لابد أن تلتزم السياسة الثقافية في السودان بضرورة الاهتمام باستيراد التكنولوجيا المتقدمة التي تخدم المجال الثقافي وتوطين صناعتها وعلومها في السودان خدمة لأجندة الثقافة.  

ولن تزدهر الثقافة بالسياسة الثقافية المحكمة وتتفيذ خططها أو بالدعم المادي والمعنوي فقط ، بل يجب أن تحمي الدولة الحريات وحقوق الإنسان لكل المجتمع حتي تزدهر الثقافة ، فالثقافة إبنة الهواء الطلق .

إن عالم اليوم يمضي بسرعة الضوء في مجال تطوير وتكامل و إدماج السياسة الثقافية في السياسة العامة للدولة علي إختلاف مجالاتها ، وتشارك المسؤوليات في تنفيذها بين الدولة والمجتمع ، وذلك نابع من أهمية الثقافة كأحد المحركات الأساسية لبلوغ أهداف التنمية المستدامة ، كما توفر السياسة الثقافية - إن وجدت الإدارة الثقافية الرشيدة و التنفيذ المتقن ومناخ الحريات وإحترام حقوق الانسان  - الحماية والازدهار للثقافات المحلية ، وهي بذلك توازن بين التنوع والخصوصية المحلية والقيم العالمية في أن واحد .

 ماسبق خطوط عريضة لأفكار حول السياسة الثقافية في السودان ، تحتاج الي مزيد من التفصيل والإثراء ، كما تحتاج قضايا الثقافة بشكل عام الي إهتمام أكبر من قبل الاكاديميين والمثقفين دراسة لمشاكلها وإنتاجا للحلول. 






































الجمعة، 8 أبريل 2022

الرياضة في السودان : تحديات الحاضر وأفاق المستقبل


   " للرياضة القدرة على تغيير العالم، فهي تستطيع توحيد البشر بطريقة يعجز عنها أي شيء آخر "

                                                  نيلسون مانديلا 


يعرف معجم كامبرديج الرياضة علي أنها لعبة أو منافسة أو نشاط يحتاج إلى جهد بدني ومهارة يتم القيام بها وفقًا لقواعد ، وذلك للاستمتاع و/أو كوظيفة. 

والرياضة في عالم اليوم أصبحت للجميع ، فهي أسلوب حياة يعزز الصحة البدنية والنفسية للبشر ويطور القدرات التعليمية والفاعلية الاجتماعية ، و يبني منظومة القيم في الشخصية الرياضيه علي أسس الاحترام والصداقة والتميز ، كما تطور الرياضة من مهارات العمل الجماعي والتعاون وتعزز من روح الانضباط وإحترام القواعد والتسامح واللعب النظيف.

والرياضة كنشاط تنافسي رسمي أو أسلوب حياة في المجتمع تحتاج الي إستراتيجية علمية شاملة تتبناها الدولة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني وكل الفاعلين في المجتمع لتحقيق الأهداف المرجوة من هذا القطاع الحيوي الذي أصبح جزءاً من القوة الناعمة للدول يعكس صورتها ومدي تحضرها و قيمها وثقافتها بين الأمم. 

وحال الرياضة في السودان كحال كثير من القطاعات المهمة المهملة من الدولة ومؤسسات  المجتمع ، حيث تعشعش فيه العشوائية والارتجال بديلا لحسن الادارة والتخطيط الاستراتيجي ، إضافة الي ضعف البنية التحتية للمرافق والمنشأت الرياضية ، وعدم مواكبة وتوافق التشريعات المحلية مع التشريعات الدولية الصادرة من المنظمات الاقليمية والدولية الرياضية ، هذا مع ضعف التمويل الحكومي و المجتمعي المخصص لهذا القطاع ، وإعتماد الاندية الرياضية في تسيير نشاطها علي جيوب الأفراد المحبين للنشاط من الرياضيين والذين مهما إمتلكوا من قدرات مالية فإنها تظل عاجزة عن النهوض بهذا القطاع الذي يتطلب إستثمارات ضخمة ووقتا حتي يصبح القطاع الرياضي قادرا علي تمويل نفسه بنفسه وتحقيق الفوائد المرجوة منه ، كما تعاني الرياضة السودانية أيضا من ضعف تدريب الكادر الوطني الناشط في هذا القطاع الحيوي علي تعدد محاوره الادارية والفنية. هذه التحديات تفرض تحركا عاجلا من كل المؤسسات الرسمية والمجتمعية لتطوير إستراتيجية علمية وواقعية وشاملة للنهوض بالرياضة في السودان .

وفي هذا الاطار لابد للدولة ممثلة في وزارة الشباب والرياضة من أن تبادر في طرح إستراتيجية شاملة لتطوير الرياضة السودانية بالتنسيق مع اللجنة الاولمبية والاتحادات الرياضية والأندية والقطاع الخاص والمجتمع المدني والرياضيين وبمشاركة كل القطاعات المتداخلة مع قطاع الرياضة مثل المؤسسات الطبية خاصة مايلي الطب الرياضي وكليات التربية الرياضية ، وبشكل عام وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي و وزارة العدل و وزارةالاعلام و وزارة الصناعة وزارة المالية وكل المؤسسات ذات الصلة .

 ولابد أن تكون الاستراتيجية الرياضية شاملة لكل مجالات ومحاور النشاط الرياضي ، بداية من تطوير التشريعات الرياضية القانونية حتي تتوافق مع قوانين ولوائح المنظمات الرياضية الدولية والقارية والإقليمية الي تطوير وتدريب الكوادر البشرية العاملة في المجال الرياضي ، وتحديث أنظمة الإدارة الرياضية لتواكب الطفرات التي أحدثتها ثورة التكنولوجيا في عالم الادارة الرياضية وفي المجال الرياضي بشكل عام ، مع الالتزام الصارم بمعايير الجودة الشاملة في كل ما له علاقة بقطاع الرياضة ٠ 

كما لابد أن تهتم الاستراتيجية الرياضية بتطوير البنية الاساسية للنشاط الرياضي والتوسع في بناء الملاعب الحديثة والمرافق والمنشأت الرياضية ، وأن لا يكون الاعتماد  في ذلك على الدولة فقط بل يمكن للقطاع الخاص أن يلعب دورا مقدرا في هذا الجانب ، وذلك من خلال إقرار قانون خاص بالاستثمار الرياضي يخاطب مخاطر الاستثمار المحتملة في هذا القطاع الحيوي ويشجع علي جذب رؤوس الاموال للاستثمار في الرياضة علي مستوي البنية الاساسيه كانشاء الاندية الخاصة والملاعب ومستشفيات الطب الرياضي ومصانع الأدوات والمعدات الرياضية ، وتشجيع الشركات العالمية المتخصصة في صناعة الأدوات والمعدات الرياضية علي إعتماد وكلاء و فتح فروع وخطوط إنتاج لمصانعها داخل السودان . أيضا  لابد من فتح الباب أمام أندية اللعبة الواحدة لمزيد من التخصصية ، كما لابد من أن تجد قضايا الإعلام الرياضي بكل أنواعه حيزا في الاستراتيجية الشاملة لتطوير الرياضة في السودان ، وذلك من خلال تذليل كل العقبات التي تمنع النهوض بقطاع الاعلام الرياضي المشاهد والمسموع والمقروء ، مع عدم إغفال تحسين أجور العاملين في مجال الإعلام الرياضي وتطوير قدراتهم من خلال التدريب المستمر داخليا وخارجيا ، وإقرار التشريعات القانونية الملزمة لذلك. 

 و لابد أن تركز الاستراتيجية الرياضية الشاملة في خططها علي صناعة وإنتاج أبطال رياضيين إعتمادا علي المدارس السنية من فئات البراعم والناشئين خاصة ما يلي الإعداد المبكر للموهوبين منهم للتنافس الاقليمي والقاري والدولي، واكتشاف ورعاية الموهوبين مسؤولية كل المجتمع ، كما أن إكتشاف المواهب الرياضية يتطلب منافسات منتظمة علي مستوي المدارس والجامعات والمؤسسات ، كما لابد من التوسع في إنشاء المدارس السنية و الاكاديميات الرياضية المتخصصة،  وذلك لالتقاط وإعداد الموهوبين منذ الصغر ورعايتهم وفقا لأحدث البرامج التدريبية والتنافسية ،  مما سيمهد الطريق أمامهم في المستقبل لحصد البطولات الدولية باسم الوطن . 

ايضا لابد للإستراتيجية الرياضية الشاملة أن تقر وتشجع الانفتاح علي تجارب الدول الرائدة في كل لعبة تنافسية ، وإستقدام خبراء منها للاستفادة منهم في تطوير اللعبة المعنية في السودان ، ايضا لابد من العمل علي إستقطاب كافة أشكال الدعم الخارجي من المؤسسات الدولية ، و تفعيل الاتفاقيات الثنائية مع الدول الصديقة ، وتوجيه كل ذلك في إتجاه تطوير البنية التحتية الأساسية والتنمية البشرية للكوادر الرياضية السودانية ( الادارية والفنية) كما ونوعا . 

إن من نقاط القوة التي تخدم أجندة الرياضة في السودان هو توفر المواهب والخامات الرياضية خاصة فيما يلي الألعاب الفردية والتي ينقصها فقط الاكتشاف والرعاية منذ الصغر لتشب علي أسس علمية وتنافسية ، ويمكن للسودان أن يحقق بطولات قارية ودولية في الالعاب الفردية إن وجدت إهتماما مثلما تجده بعض الالعاب الجماعية.

أيضا من نقاط القوة شغف مجتمعنا السوداني بالرياضة علي إختلاف ضروبها ومتابعته أخبارها ، بل إن الفعاليات الرياضية خاصة كرة القدم تستحوذ علي إهتمام قطاع عريض من مجتمعنا الذي يتدافع بالالاف ويقتطع جزءا من دخله المادي لمتابعة النشاط الرياضي المحلي من داخل الاستادات والمرافق الرياضية ، بل ويتابع الرياضة العالمية من خلال الاشتراك في القنوات الحصرية مدفوعة القيمة ، هذا الشغف لا نظير له مقارنة بالنشاطات المجتمعية الأخري مثل الندوات السياسية أو الأدبية والتي لايتعدي الحضور الجماهيري فيها علي أحسن الفروض المئات في السياق الطبيعي ، هذا الشغف المجتمعي رصيد يمكن تطويره ليكون أكثر فاعلية و إيجابية لخدمة أجندة الرياضة  في السودان ، خاصة فيما يلي التسويق الرياضي وتحويل الأندية الرياضية الي شركات مساهمة عامة ، وكسوق واعد بالطلب يمكن أن يكون عامل جذب وتحفيز للقطاع الخاص المحلي والدولي للإستثمار في المجال الرياضي  بالسودان. 

إن ممارسة الجميع للرياضة في عالم اليوم لم تعد أمرا ثانويا بل أصبحت ضرورة صحية وإقتصادية وإجتماعية لهذا لابد من التوسع الأفقي والراسي في المنشأت والمرافق الرياضية علي مستوي السودان كله ، وأن لاينحصر النشاط الرياضي فقط في المدن بل يتعداه للريف السوداني الزاخر بالامكانيات البشرية والاقتصادية التي يمكن أن ترفد مسار الرياضة في السودان بكل ماهو مفيد .

إن التخطيط الاستراتيجي السليم والادارة الجيدة والعمل الجماعي المخلص لمؤسسات الدولة والمجتمع فيما يلي الأجندة الرياضية في السودان ، يمكن أن يضع وطننا في الصدارة علي المستوي التنافسي إقليميا وقاريا و من ثم دوليا  ، وذلك لان السودان زاخر بالمواهب في كل ضروب الرياضة ، وينقص هذه المواهب الاكتشاف والرعاية والاعداد المبكر منذ الصغر وفقا لاستراتيجية علمية متفق حولها تديرها الدولة ويدعمها المجتمع .




























الجمعة، 1 أبريل 2022

نُزهة في أشعار صلاح أحمد : يازكيَّ الشعر والشعر شعور

 


          

               


   


صلاح أحمد إبراهيم نجم خالد في سماء الشعر السوداني ، ومن رواد الشعر الحديث في السودان ، وأحد مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء ،وهي تيار ثقافي تأسس في ستينيات القرن الماضي في جامعة الخرطوم ، والتي تخرج فيها شاعرنا صلاح أحمد في كلية الأداب. و يعلي هذا التيار الادبي من قيمة الهوية السودانية كقومية تمتزج فيها العروبة بالافريقية ، والغابة ترمز للبعد الأفريقي، بينما الصحراء ترمز للبعد العربي ، وقد ولد صلاح أحمد في مدينة أم درمان في ديسمبر من العام 1933.

 ويمتاز صلاح أحمد بطاقات شعرية جبارة وخيال خصب ولغة مدهشة غذتها ثقافته العالية وتجربتة الإنسانية الثرة ، كتب أجمل قصائده في الرومانسية ، متفردا فيها باستخدامه للميثولوجيا الاغريقية ، كما أجاد في توظيف التراث السوداني ورموزه بأصوله الأفروعربية في عدد من قصائده الجياد ، كتب صلاح أحمد الشعر باللغة الفصحي وبالعامية السودانية ، وأبدع بالكتابة بهما شعرا صادقا نابعا من الشعور ، لهذا وجد صدي طيبا وقبولا في نفوس متذوقي الشعر . أنتج صلاح أحمد أشعارا كثيرة ، خرج بعضها في دواوين شعرية منها : غابة الأبنوس ، وغضبة الهبباي ، ونحن والردي ، ومحاكمة الشاعر للسلطان الجائر ، ويا وطن ، كما أشترك مع صديقه الأديب (علي المك) في إنتاج مجموعة قصصية بعنوان ( البرجوازية الصغيرة) ، وشاركه أيضا في ترجمة كتاب (الأرض الأثمة) لمؤلفه باتريك فان رنزبيرج.

وفي نزهة بين أشعارصلاح أحمد ، أقطف لكم من رائعته (نحن والردي) :


نتركُ الدنيا وفي ذاكرةِ الدنيا لنا ذكرٌ وذِكرًى

من فِعالٍ وخُلُقْ

ولنا إرثٌ من الحكمةِ والحلمِ وحبِّ الكادحين

وولاءٌ، حينما يكذبُ أهليه الأمين

ولنا في خدمة الشعب عرق.


أمسِ قد كنا سُقاةَ القومِ بالكأس المرير

وغدًا يحملنا أبناؤُنا كي نستقي

فالذي تُخلَى له مَضْيَفَةُ الحي سيُدعَى للرحيل

حين يبدو قادمٌ في الأفق

وكلا القائمِ والقادمِ في دفترِها ابنُ سبيل.


أما في الرومانسية ، فكالعهد بشعر صلاح ، فقد أبدع وأجاد ، وقصيدته (قصة من أم درمان) تقف شاهدا علي ذلك ، خاصة ماجاء منها في وصف العيون ، وأقتطع لكم منها: 


عيناك وأخضر المكان

وتسمرت عيناي في عينيك

ماعاد المكان أو الزمان

عيناك بسْ

ومسكت قوس كمانتي

عيناك إذ تتألقان

عيناك من عسل المفاتن جرتان

عيناك من سور المحاسن آيتان

عيناك مثل صبيتين

عيناك أروع ماستين

هذا قليل

عيناك أصدق كلمتين

عيناك أسعد لحظتين

هذا أقل

عيناك أنضر روضتين

عيناك أجمل واحتين

ما قلت شئ

عيناك أطهر بركتين من البراءه

نزل الضياء ليستحم بها

فألقى عند ضفتها رداءه

الفتنة العسلية السمراء

والعسل المصفى والهناء

وهناك أغرق نفسه

عجز الخيال

عيناك فوق تخيلي

فوق إنطلاق يراعتي

فوق إنفعال براعتي

عيناك فوق تأملي


ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت

من أنت؟ ما أسمك يا جميل؟

وكنت من أي الكواكب قد أتيت

وقد أختفيت 

مازلت تملأ خاطري مثل الأريج

كصدى أهازيج الرعاة تلمه خضر المروج

كبقية الحلم الذي ينداح عن صبح بهيج

ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت

ومضت ليال كالشهور فما ظهرت ولا أتيت

وأنا أسائل عنك في الليل القمر

وأنا أفتش في ابتسامات الرضا لك عن أثر

في كل ركن سعادة لك عن أثر

في كل نجم خافق

في كل عطر عابق

في كل نور دافق

لك عن أثر .


ولصلاح قصائد  رومانسية أخري لاتقل جمالا عن قصيدته( قصة من أم درمان ) ومنها قصيدة (مريا) و التي تفرد فيها صلاح باستخدام الميثولوجيا الأغريقية ، ومنها إخترت لكم :



ليت لي أزميل " فدياس " وروحا عبقرية

وأمامي تل مرمر ,

لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثالا مكبر ,

وجعلت الشعر كالشلال : بعض يلزم الكتف وبعض يتبعثر

وعلى الأهداب ليلا يتعثر

وعلى الأجفان لغزا لايفسر

وعلى الخدين نورا يتكسر

وعلى الأسنان سكر

وفما ـ كالأسد الجوعان ـ زمجر

يرسل الهمس به لحنا معطر

وينادي شفة عطشى وأخرى تتحسر

وعلى الصدر نوافير جحيم تتفجر

وحزاما في مضيق , كلما قلت قصير هو , كان الخصر أصغر

يامريا :

ليت لي أزميل " فيدياس " وروحا عبقرية

كنت أبدعتك ياربة حسني بيدي

يامريا :

ليتني في قمة " الأولمب " جالس

وحوالي العرائس

وأنا في ذروة الإلهام بين الملهمات

أحتسي خمرة " باخوس " النقيه

فإذا ماسرت النشوة في

أتداعى , وأنادي : يابنات

نقروا القيثار في رفق وهاتوا الأغنيات .


وقد ذاعت هذه القصيدة أكثر بعدما غناها الفنان الكبير الراحل (حمد الريح)، كما غني الموسيقار الراحل محمد وردي لصلاح أحمد قصيدة (الطير المهاجر) وهي قصيدة باللغة العامية السودانية ، وهي من أجمل أشعار صلاح الغنائية وزادها حسنا لحن وصوت فنان أفريقيا الأول ، وغني له أيضا الفنان الكبير صلاح بن البادية قصيدة (ياعزه ولدك فيهو سر ) ، كما غني له الهرم الغنائي عثمان حسين قصيدة (العوده الي اليرموك )، و أبدعت فرقة عقد الجلاد الغنائية في إختيار وغناء قصيدته (شين ودشن) ، وهي أيضا بالعامية السودانية ومنها هذه الأبيات :

البسمع فيهم يا أبو مروه

يبادر ليك من غير تأخير

دا اخو الواقفة يعشى الضيف

الحافظ ديمه حقوق الغير

الهدمه مترب وقلبه نظيف.


وإجادة صلاح أحمد لأنواع عديدة من الشعر يعكس موهبته المتفردة وطاقاته  الشعرية المتعددة ، وثقافته العالية ، وإمتلاكه ناصية اللغة العربية وأدابها ، مما سهل عليه ترجمة شعوره شعرا باللون الشعري الذي يتناسب مع الموضوع الذي يقرض فيه .

وأخترت لكم من قصيدة (حنين)  هذه الرباعيات:


يا طير  إن مشيت سلم على حبانى

جيب خبر الوطن يمكن قليبو طرانى

جيب نسام زلالو المنو مره روانى

جيب لمحات جمالو الاصلى مو برانى


عرج على جبال كررى وتوخى يمينك

وفى اطراف مقابر البكرى أحنى جبينك

حلق فوق معالم البقعة متع عينك

وسلم لى على الدايما بسأل وينك


أدخل ليهو بالباب الصغير دامع

وفى حوش التراب أسجد تحية جامع

سلم فى خشوع قول ليهو جيتك راجع

أقلع بين ايديهو الفى ضلوعك ساجع


 ولم يكتفي صلاح أحمد ببراعته في الشعر العربي بأنواعه المتعددة  والمتعارف عليها في السودان والإقليم ، بل كتب الشعر علي نسق( الهايكو الياباني ) الذي يعتمد في التعبير ، علي عمق و كثافة المعني بمفردات قليلة ،.وهو نوع من الشعر لا قافية له ولا وزن ، حيث تتألف أشعار الهايكو الياباني من بيت واحد فقط ، مكون من سبعة عشر مقطعا ، وقد تنقص الي أربعة عشر أو تزيد الي واحد وثلاثين مقطعا ، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر .

وأجاد صلاح أحمد في نظم قصائد علي نسق( الهايكو الياباني)، منها :


النيل وخيرات الأرض هنالك 

ومع ذلك... 

ومع ذلك...


 وقد سخر  صلاح أحمد ملكاته الشعرية في التعبير عن مواقفه السياسية ، وله في هذا الباب ارث كبير ملأ الدنيا وشغل الناس ، وكتب عن شعبنا بعد ثورة اكتوبر :


أعرفهم: الضامرين كالسياط

 الناشفين من شقا

اللازمين حدهم، الوعرين مرتقى

أعرفهم كأهل بدر شدة، ونجدة، وطلعة، وخلقا

أعرفهم ان غضبوا مثل انفلاق الذرة

أو وثبوا فكهوي الصخرة

أو فتكوا فأسأل الصاعقة

أو زأروا فالحزم ملء الزأرة

الجن لا يحوشهم من شدة التعنت

تسوقهم إلى الردى زغرودة الفتوة

أو هاتف – ولم يسم – يا أبا المروءة

فيأكلون الجمر لا يلوون بالدنية.


ودبج الاشعار في المناضل الأفريقي باتريس لومومبا ، منها هذا المقطع : 


معصوب العينين معرى الصدر تدفره رجل السجان

 كفاه وراء الظرف التفّ عليهما القيد 

 كما يلتف على السمك السرطان

وتقدم يمشي معتداً تحسبه يخطب في آلاف

وتحسبه سلطان

في موكب نصر يخطر أبهة كأوز النيل

حواليه العبدان

مرفوع الأنف يقبل سيف الحق

يصلصل في زرد الإيمان


وبحكم إقامة صلاح أحمد خارج أرض الوطن لسنوات طويلة ، فقد تناول في شعره إنفعالات الغربة والحنين الي الوطن في كثير من روائعه ، ومن ذلك الإرث ماخطه عن إنفعالات الغربة في بلاد مقياس الناس فيها بالألوان ، وهي دعوة في ظني لاتقتصر علي الخارج فقط بل هي دعوة للتفكر في حال واقعنا المحلي الذي مازال يمور و يضطرب عصبية ، خاصة من أولئك الذين يدعون النقاء العرقي من السودانيين ، ويميزون علي أساسه داخل السودان ، و من تغرب يعرف أننا كسودانيين علي إختلاف درجات ألواننا سود في نظر البيض ، وآن لمن يدعون النقاء العرقي أن يتطهروا من هذه الجاهلية ، ويتركوا الشقاق بسبب التعدد العرقي ، وأن يلتفوا حول الهوية السودانية ببعديها الأفريقي والعربي ، و التي عبرت عنها شعرا مدرسة الغابة والصحراء ، وكان صلاح أحمد أحد روادها ، ومن الملاحظات أننا كسودانيين نعيش كمجتمع موحد و متجانس علي تعددنا خارج الأوطان أكثر مما نتألف في داخل الوطن ، وقصيدة (إنفعالات في الغربة) تعكس قضية التمييز  في بعض المجتمعات علي أساس اللون ، منها أقتطع لكم :


هل يوماً ذقت الجوع مع الغربة؟


والنوم على الأرض الرطبه


الأرض العارية الصلبة


تتوسد ثنى الساعد في البرد الملعون


أني طرفت تثير شكوك عيون


تتسمّع همس القوم، ترى غمز النسوان


وبحدّ بنان يتغوّر جرحك في القلب المطعون


تتحمل لون إهاب نابٍ كالسُّبّه


تتلوى في جنبيك أحاسيسٌ الإنسان


تصيح بقلب مختنق غصان:


وآ ذلّ الاسود في الغربة


في بلد مقياس الناس به الألوان!


 ماسبق شذرات من شعر صلاح أحمد ، أما تراثه الفكري والأدبي بشكل عام  فغزير ومتنوع ، حيث كتب وترجم مئات المقالات السياسية والأدبية و عشرات القصص القصيرة ، ونشرت مساهماته تلك في عدد من الصحف السودانية والعربية في ذاك الوقت ، وأمثال صلاح أحمد من الأدباء المجيدين قلة يجب أن تفاخر بهم الأمم ، وتهتم بتوثيق تراثهم الأدبي الرفيع ، لان ماتركوه من إرث أدبي رفيع يستحق ذلك ، توفي الشاعر صلاح احمد إبراهيم في مايو من العام  1993 :


رُبَّ شمسٍ غرُبت والبدرُ عنها يُخبر

وزهورٍ قد تلاشت وهي في العطر تعيش


وأختم نزهتي بين أشعار صلاح أحمد بأبيات من رائعته (نحن والردي)  : 


في غدٍ يعرفُ عنا القادمون

أيَّ حب قد حملناه لهم

في غدٍ يحسبُ فيهم حاسبون

كم أيادٍ أسلفت منا لهم

في غدٍ يحكون عن أنَّاتنا

وعن الآلام في أبياتنا

وعن الجرح الذي غنى لهم

كل جرحٍ في حنايانا يهون

 حين يغدو مُلهما يُوحي لهم

جرحُنا دامٍ ونحن الصامتون 

حزننا جمٌّ ونحن الصابرون

فابطشي ما شئتِ فينا يا مَنون

كم فتًى في مكة يشبه حمزة؟



https://shihabeldinabdelrazigabdalla.blogspot.com/