الجمعة، 25 مارس 2022

نحو سياسة إجتماعية متكاملة تمثل قيم الثورة السودانية

  


يتفق الأكاديميون بشكل عام ، علي أن السياسة الاجتماعية هي جزء من السياسة العامة التي تصدرها الدولة أو من يمثلها وتخاطب فيها القضايا الاجتماعية كالرعاية الصحية والتعليم والسكن وسوق العمل والرفاهية ، كما تعالج إستجابة الحكومة والمجتمع للتحديات الاقتصادية والاجتماعية كقضايا الفقر والهجرة والنزوح ، وتحلل السياسة الاجتماعية الأدوار المختلفة التي يقوم بها شركاء المجتمع من حكومة ومنظمات غير ربحية ومجتمع محلي وأسرة في تقديم الخدمات عبر دورة حياة الانسان من الطفولة الي الشيخوخة. وتهدف السياسة الاجتماعية بشكل عام  للحد من عدم المساواة في الحصول علي الخدمات والدعم بين الفئات الاجتماعية المستهدفة بحسب الحالة الاجتماعية والاقتصادية والنوع والعمر والعرق و غيرها من المحددات.

وقد رفعت الثورة السودانية شعارات الحرية والسلام والعدالة ، والعدالة بمفهومها الشامل تغطي وجوه عديدة ، كالعدالة الاجتماعية والعدالة القضائية والعدالة السياسية .

والسياسة الاجتماعية هي التعبير العملي لتطبيق شعار الثورة السودانية فيما يلي وجه العدالة الاجتماعية ، و التي لن تتحقق ما لم تتنزل سياسات وخطط وبرامج تضمن المساواة وحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص والخدمات ، إذ من المفترض أن تخاطب السياسة الاجتماعية بعد الثورة السودانية محاور عديدة منها مايتصل بمعالجة قضايا الفقر و المخاطر المرتبطة بدورة الحياة كالمرض والشيخوخة والإعاقة وغيرها ، ومنها مايتصل بمحور الاستثمار في البشر من خلال الاهتمام بقضايا التعليم والصحة وسوق العمل ؛ ومنها مايعالج قضايا التنمية الاجتماعية كالاهتمام بالتنمية في الريف وقضايا الأراضي والمياه وغيرها . فالسياسة الاجتماعية بعد الثورة السودانية يجب أن تخطط من أجل الجميع ولمصلحة كل المجتمع ، مع التركيز علي  الاستثمار في البشر كأغلي راسمال في المجتمع من خلال الاهتمام بقضايا التعليم والصحة والسكن وسوق العمل ، ذلك أنه كلما كانت السياسة الاجتماعية متكاملة كل ماتعزز  نمو المجتمع وإستقراره وتماسكه ، إذ من المفترض أن تلعب السياسة الاجتماعية في سودان مابعد الثورة دورا بارزا في توطيد النسيج الإجتماعي من خلال دعمها لقيم العدالة الاجتماعية وتعزيز المساواة في المجتمع ، بل والمساهمة في تخفيف الصدمات الاقتصادية في وقت الأزمات ، والتي لايخلو منها أي مجتمع إنساني. خاصة مع الاتجاه الاقتصادي الغالب محليا بضرورة التعامل مع المؤسسات المالية العالمية( صندوق النقد والبنك الدولي ) ومايترتب علي تنفيذ سياسات هذه المؤسسات من فجوات إقتصادية ، وتصاعد في وتيرة خصخصة الاقتصاد والخدمات قد تتلاشى علي إثره الطبقة الوسطى في المجتمع ، ويصبح المجتمع بين غني ومعدم ، لذلك أصبح من الضرورة تبني سياسة إجتماعية تحد من عدم المساواة في المجتمع السوداني ، وتلبي ضرورياته خاصة مع إرتفاع التكاليف المادية للاساسيات كالغذاء والرعاية الصحية والتعليم والسكن اللائق ، وأصبح الحصول علي هذه الضروريات خارح متناول الاغلبية من محدودي الدخل .

وعلي جماهير شعبنا الضغط في إتجاه تبني الدولة لسياسة إجتماعية عادلة تؤسس لمجتمع العدالة الاجتماعية ، ولضمان الالتزام طويل الامد بتنفيذ السياسة الاجتماعية المتفق حولها، لابد من تضمينها كحق من الحقوق الدستورية ، حتي لايصبح الالتزام بها وقفا علي حكومة بعينها أو خاضعا لتقلبات وأهواء السياسة.

 وعلي الرغم من أن الحكومات في العالم المتقدم  لم تعد هي الفاعل الوحيد في ميدان السياسة الاجتماعية بل أصبح لها شركاء كالقطاع الخاص والقطاع غير الربحي والمجتمعات المحلية وصولا للأسرة وحتي الافراد ، لكن الواقع في السودان مختلف تماما،  فمع ضعف إلتزام القطاع الخاص تجاه مسؤولياته المجتمعية ،  وجنوحه لمشاريع تحقق له الدعاية أكثر مما تلبي حاجة مجتمعنا ، و ضعف مؤسسات المجتمع المدني والتي لم يقوي عودها بعد كما ونوعا ، عليه تصبح إدارة السياسة الاجتماعية مسؤولية الدولة بشكل مباشر تخطيطا وتنفيذا وتقويما .

 وقد برهنت تجارب بعض الدول المتقدمة أن التركيز علي إزدياد معدلات النمو الاقتصادي ليس كافيا لردم الهوة وتحقيق رفاه المجتمع ؛ بل ربما ساهم في زيادة وتوسيع الفوارق الاقتصادية وزيادة حدة الفقر وإختلال المجتمع ، ما لم يكن مستندا على سياسة إجتماعية فاعلة تعبر عن إحتياجات الناس الحقيقة وتعمل على تلبيتها وتجسير فوارق المجتمع ، كما أن تحسن المؤشرات الاقتصادية ليس هدفا في حد ذاته ، بل الأثر الايجابي لهذا التحسن علي حياة الناس وتنمية المجتمع. 

والدعوة للعدالة الاجتماعية ليست مطلبا بشريا فقط بل هي أمر إلهي ، وفي كل الديانات السماوية من التشريعات مايعضد قيم العدالة الاجتماعية والتراحم بين الناس ماديا ومعنويا ،ويكفي علي سبيل المثال لا الحصر ، أن الركن الثالث في الإسلام هو فريضة الزكاة وماتحمله من قيم التكافل المادي في المجتمع ،كما دعا الاسلام الي رحمة الصغير وتوقير الكبير علي وجه العموم  ، وخص بالأجر العظيم والفوز بالجنة كافل اليتيم ، والبار بوالديه وذلك من أحب الأعمال الي الله ، ومن حقوق المسلم علي المسلم  زيارة المريض وإتباع الجنازة ، ومن سيرة صحابة النبي الكريم ،إيثار الانصار للمهاجرين، وقد مدحهم الله عز وجل في كتابه الكريم ، وأصبح صنيع الأنصار رضي الله عنهم قرأنا يتلي الي يوم الدين ، مثل لامع أخر في الإيثار والمواساة عن صحابة النبي الكريم من الأشعريين ، وقال النبي الكريم فيهم: ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم) .أما المساواة بين البشر فقد أقرها الإسلام فعلا وقولا ، فالرب وأحد ، وكلنا لأدم وأدم من تراب.  

وفي الثورة السودانية أمثلة كثيرة علي الايثار والتكافل ولعل أسطعها تجربة إعتصام القيادة العامة ، والتي توحد فيها السودانيون وتكافلوا فيما بينهم علي إختلاف اعراقهم ، وبرز في تلك التجربه شعار (لو عندك خت ، لوماعندك شيل) كمثال بارز علي روح التكاتف بين الثوار .

وإجمالا ، لايمكن تصور وجود حكم رشيد باركانه الثلاثة (الحرية والمساواة والعدل ) دون سياسة إجتماعية عادلة و متكاملة . وما من تجربة إنسانية في الحكم لها ذكر في الجانب المشرق من التاريخ البشري إلا و كانت العدالة الاجتماعية بمثابة الروح و القلب النابض لها .

إن قضية توزيع موارد الدولة توزيعا متوازنا له علاقة وثيقة بنجاح السياسات العامة ، وعلي رأسها السياسة الاجتماعية ، والتي يجب أن يكون الالتزام بها حقا دستوريا حتي لايتهرب الجهاز التنفيذي من الايفاء بها .

 وقد أبرزت حسابات منظمة العمل الدولية أن تكلفة بناء نظام فاعل للضمان الاجتماعي الأساسي يشمل خدمات التعليم الأساسي والرعاية الصحية للفقراء ودعم المعاشيين والمعوقين لايتجاوز نسبة ال ٢% فقط من الدخل القومي للدولة ، وكل ما أزدادت النسبة المخصصة في الدخل القومي لبند السياسة الاجتماعية كلما كانت أكثر شمولا و إكتمالا ( كما ونوعا) وإنعكس ذلك إيجابا علي إستقرار وتماسك و تنمية و رفاه الدولة والمجتمع .











































السبت، 19 مارس 2022

حول إدارة التعدد العرقي وبناء الهوية المشتركة في السودان


مابين حاضرنا وخطاب وداع السير روبرت هاو حاكم عام السودان  بُعيد الاستقلال ، و الذي أوضح فيه أن أكبر  تحدي يواجه شعوب السودان هو كيفية إدارة التعدد والتنوع الذي يذخر به السودان ، ليكون هذا التنوع  مصدر قوة لا مصدر نزاع ، تتمدد ستة عقود ونصف من الحكم الوطني فشلت جميعها في إدارة التعدد العرقي وما أنتجه من تباين في الدين و اللغة و اللون ، بل وفقدت الشعوب السودانية شعب جنوب السودان الذي أسس دولته منفصلا عن الدولة السودانية مابعد الاستقلال ، وقد جاء إنفصال الجنوب نتيجة لخطأ المعالجات التي تبنتها الدولة السودانية في معالجة مسألة التعدد العرقي في السودان ، ومايتطلبه إدارة هذا التعدد من حقوق دستورية و سياسات إقتصادية وإجتماعية وسياسية وثقافية ، ذلك أن الاختلاف والتعدد هو إرادة الله في خلقه ، ولا يشكل الاختلاف والتعدد في حد ذاته عيبا أو نقصا أو مانعا للتوافق حول قضايا الدولة الواحدة ، وبناء الهوية التي تشعر كل المجموعات العرقية بالانتماء إليها ، ولهذا فان الإدارة الجيدة لمسألة التعدد العرقي ، توجب الإعتراف أولا بحق الاختلاف والتنوع بكل مستوياته ، يعزز  ذلك الحق بسط الحريات السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية لكل المجموعات العرقية ، فالحرية ضرورة لاغني عنها حتي تطمئن كل المجموعات العرقية وتبادل الدولة حقوقها وأجبات ، مما يسهم في إزدهار التعايش السلمي ، و تعزير القواسم المشتركة للهوية الوطنية الجامعة التي  تقف علي قاعدة متماسكة و متنوعة من إنتماءات أولية كالقبيلة والدين واللون والثقافة  ؛ والانتماءات الأولية هي قدر الانسان التي يولد بها ، ولا يختارها ، لهذا فعدم الإنغلاق أو التقوقع في أجندة هذه الانتماءات الأولية ، والانفتاح علي المجموعات العرقية الأخري هو مايقود الي بناء القواسم المشتركة كضرورة لبناء الدولة الوطنية الموحدة بوجدانها الجمعي ومصالحها العليا وهويتها التي يتشاركها الجميع .

والسودان ليس هو البلد الوحيد الذي يذخر بتعدد في القبائل و اللغات والديانات والألوان والثقافات ، وقد نجحت دول مثل سويسرا وماليزيا وهولندا و جنوب إفريقيا والنمسا وكندا من جعل التعدد مصدر ثراء وقوة ، وقد عالجت هذه الدول مسألة التعدد العرقي من خلال إعتماد دساتير توافقية تضمن مشاركة و تمثيل وحقوق كل القوميات علي تعددها وتنوعها، ورسمت من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية مايضمن ذلك ، ولم تغفل عن معالجة مأزق الأقليات في مواجهة الأكثرية كأحد نقاط الضعف عند تطبيق الديمقراطية التقليدية في المجتمع المتعدد ، فاعطت حق الاعتراض والنقض المتبادل بين الأقلية والأغلبية في المجتمع المتعدد لمنع إحتكار القرار ، كما أعتمدت التمثيل النسبي  في الانتخابات وفي المؤسسات ، وقد ساهمت هذه المعالجات في تسهيل مشاركة الجميع مما إنعكس إيجابا علي تقوية تماسك المجتمع والدولة ككل ، كما منحت حق الادارة الذاتية لكل أقليم في إطار مفهوم الدولة الواحدة والحكومة الواسعة القائمة علي تحالف جميع مكونات الدولة أكثرية وأقلية، ونجحت هذه الدول من خلال هذه الوصفة في خلق الانتماء ( للأمة الواحدة) علي قاعدة متعددة عرقيا ، وقد ذكر عالم السياسة الهولندي الاصل الأمريكي الجنسية أرنت ليبهارت في كتابه (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد )  والذي شرح فيه نظريته حول الديمقراطية التوافقية كعلاج لمشكلة المجتمعات المتعددة المنقسمة عرقيا ولغويا ودينيا وثقافيا أن الديمقراطية التوافقية وصفة لبناء الثقة في المجتمعات المنقسمة ، و يتطلب نجاح تطبيقها تعاونا من كل مكونات المجتمع المتعدد ، وإعتدالا ووسطية ومرونة من الجميع حتي يكون النظام التوافقي فاعلا ومنتجا وقابلا للاستمرارية والتطوير ،  لان تمترس أي مكون عرقي أو ثقافي  بمواقفه دون مراعاة لمصالح الأخرين ، قد يشل عملية إتخاذ القرار في الدولة والتي تتطلب تنازلات من الجميع ، كما أن التركيز علي تعظيم المكاسب والإمتيازات لإقليم أو مجموعة عرقية محددة في ظل الديمقراطية التوافقية قد يفجر  نزعات إستقلالية تكون مدخلا لتفكك الدولة .

 وفي واقعنا السوداني فقد أدي الفشل في صناعة دستور توافقي يعالج مسألة التعدد العرقي مع غياب القوانين الملزمة التي تضمن الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لشعوب السودان المختلفة علي تنوعها و تعددها الي نزوع بعض النخب التي تنتمي الي بعض المجموعات العرقية التي تشعر بالتهميش الي توظيف هذا الشعور سياسيا كرد فعل علي إحتكار مجموعات ثقافية وعرقية أخري للمجال العام سياسيا وثقافيا ، وقد قاد ذلك سابقا في التجربة السودانية لانفصال شعب جنوب السودان ، وإذا إستمرت ذات المعالجات الخاطئة للتعامل مع قضية التعدد العرقي ، فالنتائج بلاشك ستكون مزيدا من التقسيم ، وسيتشظي السودان الي دويلات علي أسس عرقية وثقافية.  

إن الحل للصراع العرقي في السودان ، يكون من خلال التراضي بين كل شعوب السودان علي دستور توافقي وقوانين ملزمة تحترم وتحمي خصوصية كل شعب وثقافته ، وتضمن الحريات و الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل شعوب السودان في إطار مفهوم الدولة الوطنية الواحدة التي تحقق مصالح الجميع ، وأن يكون التوافق الدستوري علي هدي الديمقراطية التوافقية  خطوة اولي في طريق إندماج  كل مكونات المجتمع تحت رأية الإنتماء للدولة والهوية الوطنية السودانية كحاضنة للجميع ، ولتعزيز هذا الإتجاه لابد من أن تعمل الدولة علي دعم وتطوير أدوات المجتمع المدني كالأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومنظمات العمل التطوعي وغيرها من الكيانات العابرة للانتماءات الأولية ، والتي توحد السودانيين علي أسس الفكر والقيم الانسانية متجاوزة العرق و العصبية النتنة.كما يكمن الاستفادة من التجارب الانسانية الناجحة لبناء نظام ديمقراطي توافقي في السودان تلبية لواقع وحاجة مجتمعنا المتعدد في هذه المرحلة الحرجة من عمر الأمة السودانية .

https://shihabeldinabdelrazigabdalla.blogspot.com/